إخوة الإيمان
لعلّ ما يروع قلوبكم ويؤذي مشاعركم الحديث عن الخلاف في الصّف المسلم، وترون في هذا الحديث ما يقضّ مضاجعكم، فتنظرون إلى هذا الأمر نظرة ملؤها الرّهبة، وخاصّة عندما تضعون ما تتداوله الألسن، وما يدور في الصَّف من عوامل الاختلاف، أمام أخوّة الإسلام ورابطة الإسلام، أمام قوله تعالى: } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { (الحجرات: 10)، تسمعون هذا الكلام فترون أنّ أخوّة الإسلام تنتقض، وإذا انتقضت أخوّة الإسلام فقد اقترب الخطر، واقتربت العقوبة الإلهيّة.
أذكركم يا إخوة الإيمان بأنّ الله تعالى أتبع قوله: } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { بقوله: } فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {. (الحجرات:10). إذن الاختلاف لا يتناقض مع أخوّة الإسلام وإلاّ فكيف تكون المصالحة ما لم يكن هناك اختلاف، إذاً لا ضير علينا أن نرى اختلافاً في الصّف المسلم مع الحفاظ على الأخوّة، وهذا مسلّمة أساسيّة لا يُخيفنا ذكرها.
وأذكر أكثر من ذلك حتّى يطمئنّ الأخ المسلم، فقد سبق هذه الآية الحديث عن الحرب والاقتتال، اسمعوا إلى قوله تعالى: } وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {. (الحجرات:9-10).
نودّ دائماً أن نضع الأمور في نصابها، وألاّ ندع جانب المشاعر الحادّة يُسيطر علينا فيدخل الإحباط إلى نفوسنا ويتمكّن الاختلاف من قلوبنا.
والذي أودّ أنّ أقوله من وحي هذه الآيات الكريمات: أنّ الاختلاف يحصل بين المؤمنين ويستفحل إلى حدّ الاقتتال أحياناً، والواجب الشّرعيّ أن يُبادر المؤمنون إلى الصّلح لإنهاء القتال والضرب على يد الفئة الباغية. ولاحظوا أنّ القرآن سمّى الفئة المعتدية الباغية ولم يُسمّها الكافرة لأنّها ستفيء إلى أمر الله، وسيتمّ الصّلح، وسيعود النّاس جميعاً إلى حظيرة الإيمان.
يأتي سياق الآيات ليتحدّث عن آداب الاختلاف في الإسلام، فلنحرص على هذا الأدب، ولا يضيرنا الاختلاف بعدها.
} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {. (الحجرات:11).
إذاً عندما نختلف على رأي أو موقف أو قضيّة، فهناك أدب إسلاميّ محدّد، ينبغي ألاّ نتجاوزه، وألاّ ندخل في عالم السّخرية، لأنّني أختلف مع أخي، وأعرف أنّه قد يكون أفضل وأحبّ وأكرم مني عند الله عزّ وجلّ، وأكبح جماح نفسي، ولا أنظر إليه على أنّه هو المسيء، وهو المتّهم، وهو المتورّط، أمّا إذا نظرت إليه هذه النّظرة، فالسّخرية قائمة، والتّنابز قائم، والاتّهام قائم، والاسم الفسوق قائم.
هذا هو المعنى الأوّل الذي أتمنّى أن نتأدّب به، ونحن مختلفون مع بعضنا، } عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ {. } عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ {. (الحجرات:11).
والأدب الثاني: } يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {. (الحجرات:12). عندما أختلف مع أخي المسلم في موقف، لا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مبنيّاً على الظّنّ، وإلاّ فأنا آثم، وإن وقعت في التّنابز بالألقاب، فأنا في الفسوق واقع.
إذاً هناك أدب خالص يُطالبنا القرآن الكريم أن نتمسّك به ونحافظ عليه ولا يضيرنا الاختلاف في الرأي، والذي يضيرنا هو عدم التّمسّك بالهدى القرآني فيوقعنا في حظيرة الفسوق والظّلم والإثم.
} اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {. والتّعبير القرآني العجيب لم يقل "اجتنبوا بعض الظنّ لأنّه إثم"، إنّما قال: } اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ...{. فالمطلوب تجنّبه إذاً، الإسراف في الظّنّ، وليس الظّنُّ القريب من اليقين، قال الله تعالى: } إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {. (المائدة:90). وقال: } يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ {. (الحجرات: 12). هل يُرافقني شعور عندما أختلف مع أخي وأنا أبني على الظّنّ وأخاصم على الظّنّ وأحارب على الظّنّ، أنّني مواز لمن يلغ في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام؟.
} وَلا تَجَسَّسُوا {: حتّى تحقّقوا هذا الظّنّ، } وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {. (الحجرات:12).
هذا الكلام وجّه إلى أفضل جيل على وجه الأرض، وعندما يأتي النّهي إلى ذلك الجيل الفريد، فإنّ هذا يعني وجود الغيبة، والظنّ الكثير، والتّنابز بالألقاب. ولذا جاء النّهي عاماً وشاملاً، وجاءت نهاية الآية التي تردّ المسلمين إلى التّقوى والإنابة: } وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {.
إذاً لا يروعنا أن نرى المخالفة، لكنّ الذي يقصم الظّهر هو الاستمرار عليها والإصرار على تصعيدها.
إنّ الأمر يحتاج منّا إلى توبة وإنابة، لأنّ الغيبة في الحديث ليست كلاماً شهيّاً، لذيذاً عابراً، تصرفه النّفس على هواها، ولكنّه أمر عظيم } أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ؟ {. قفوا، اهزموا هذه النّفوس، اردعوها قبل أن تلغ في أعراض المسلمين وتتورّط في غيبتهم، لأنّ ذلك يوازي إقدامها على أكل الجيفة، وجيفة من؟ جيفة الأخ المسلم. إنّه أمر تتقزّز منه المشاعر، ولكنّه يحدث في كلّ يوم، وكلّنا في البلاء سواء، ليس منّا من لم يقع بهذه الخطيئة. إذا كان هذا التّوجيه القرآني أصاب جيل الصّحابة، فليتحسّس كلّ واحد منّا نصيبه منه. وكلّ رجل في الصّف معنيّ بهذا الكلام، مهما كان وضعه وموقعه ومركزه، إلاّ من رحم ربّي. ونذكّر أنفسنا بقول الله عزّ وجلّ دائماً وأبداً: } أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {.
لعلّ المعنى الذي أردته أصبح واضحاً، وأحبّ أن أنقل لإخواني صوراً محدّدة، ليست في حالة الاختلاف فحسب، وإنّما في حالة الحب أيضاً، ومن حياة جيل الصّحابة القدوة.
الجيوش متقابلة ومعبأة ومستعدّة للنّزال، ويلتقي عليٌّ بالزّبير رضي الله عنهما، يخرجان للمبارزة وكلاهما قائد، ومصير الجيش متوقّف على موقف القائد. ينظر علي إلى الزّبير ويقول: يا زبير، أتذكر يوماً كنت فيه أنا وأنت ورسول الله e، فنظرت فيّ فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله: "والله ما به زهو، وستقاتل عليّاً وأنت ظالم له". معركة مصير، مستقبل، موقع، قد يخسر الزّبير القيادة لو استجاب لهذه الكلمة، وقد يُحكم عليه بالخيانة. ولكنّ دين الله أعلى وأغلى من كلّ ذلك، فقال الزُّبير: "والله لو ذكرت هذا ما خرجت إليك"، وأدار فرسه وترك المعركة.
حادثة لو فتّشنا في حروب العالم كلّها لما وجدنا لها مثيلاً، وما ذلك إلاّ لأنّ الزّبير يبغي الحقّ ولا شيء سواه، وتحمل الزّبير هجوماً عنيفاً من جراء ذلك، حتّى أنّ ابنه قال له: "أخافتك سيوف هاشميّة حتّى أصابك الجبن"، فقال له: صبراً، ومضى في جيش عليّ حتّى دخل فيه، وأوغل ميمنة وميسرة، ثمّ عاد لابنه وأركان حربه، وقال لهم: أيفعل هذا جبان؟ قالوا: لا، قال: إنّي لن أُقاتل عليّاً لأنّه على حقّ. وترك المعركة ومضى بعيداً. لنشهد عظمة الإسلام وأثره في نفوس أهله حتّى في الاحتراب، وكيف يبقى الإسلام هو صمام الأمان لكلّ النّفوس، مهما ابتعدت، ومهما اختلفت، ومهما تحاربت.
وتتمّة هذه الصّورة أنّ بعض الانتهازيين تحرك ومضى وراء الزبير t، وراح يُصلّي وراءه في خربة بعيدة، قال له الزّبير: أنت آمن منّي فهل أنا آمن منك؟ قال: نعم!. ووضعا سلاحيهما، وراح الزّبير يُصلّي، فأخذ عمرو بن جرموز الانتهازي الرّخيص سيفه وقتل الزّبير. وفي مقتل ابن صفيّة نصر لا حدّ له، ثمّ حمل رأسه، وهو يتخيّل الدّنيا وقد أقبلت إليه، لقد قتل قائد جيش الأعداء، فليهنأ بالمال والحياة. ولعلّ مثل هذا العمل في غير هذا المقام يُقرّب صاحبه من المناصب الكبيرة والغنى والحياة.
جاء إلى عليّ ولسان حاله يقول:
أوفِ الرّكاب فضّة وذهباً فقد قتلتُ السّيد المحجّبا
قالوا لعليّ: يا أمير المؤمنين، قاتل الزّبير يستأذن... لم يُعلن الفرح، ولم تنفرج أساريره، ورأس البطل القائد يتدحرج أمامه. ولم يُعلن النّصر على العدو... لا. قال لهم: "ائذنوا له وبشّروه بالنّار" فدخل الرّجل وهو يقول: "أنقتل أعداءكم وتبشّروننا بالنّار"! قال علي: "سمعت رسول الله e يقول: "بشر قاتل ابن صفيّة بالنّار". لم يقتله لدين ولا لكرامة ولا لحقّ، إنّما لمركز أو منصب أو مال، فكان جزاؤه النار. ثمّ نظر إلى سيف الزّبير ودمعت عيونه وبكى، وقال: طالما ذبَّ هذا السَّيف عن وجه رسول الله e".
وجاء عمران بن طلحة إلى أمير المؤمنين علي t مرّة. وطلحة من القادة الذي قاتلوا عليّاً يوم الجمل: وكان عمران بجوار عليّ ومن المقرّبين إليه، فقام عليّ واستقبله وأجلسه بجواره وأدناه، وقال يا عمران: إنّي لأرجو الله تعالى أن أكون أنا وأبوك ممّن قال الله فيهم: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {. (الحجر:47)، فتحرّك الحماس الأجوف في الحارث الأعور الذي كان من المتحمّسين لعليّ، ووقف يتطاول على علي ويعلّمه الإسلام!. قال: الله أعدل من أن نقتلهم ويكونوا رفاقنا في الجنّة. فصرخ به عليّ صرخة دوى بها المكان. وقال له: قم إلى أبعد الأرض واسحقها، ففي من تكون هذه الآية إذا لم تكن فيّ وفي طلحة. } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {.
نسأل الله أن ينزع ما في قلوبنا من غلّ وحسد، وأن يجعل قلوبنا خالية من كلّ ما يُغضبه، إنّه سميع مجيب.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول