أثر المثل الأعلى في تربية الأجيال وصنع الرجال

أثر المثل الأعلى في تربية الأجيال وصنع الرجال

 

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 ماذا نعني بالمثل الأعلى:

إن المثل الأعلى هو الشخصيّة التي تتحلّى بمجموع صفات عالية، تجذب الناشئ إليها، وتدعوه إلى التأسّي والاقتداء.

أو هو: تألّق فذّ في صفة من الصفات أو موهبة من المواهب، تجعل الإنسان محلّ الإعجاب من الآخرين، وتدعوهم إلى التأسّي والاقتداء.

 والتطلّع إلى المثل الأعلى، حاجة فطريّة، وضرورة إنسانيّة، تنبع من فطرة الإنسان في التمييز بين الخير والشرّ، وحبّ الخير والانجذاب إليه، والتطلّع إلى الكمال، والحرص عليه، وكره الشرّ وتجنّبه، والأنفة عن النقص والنفور منه.

 وأوّل ما يتجلّى التطلّع إلى المثل الأعلى في حياة الطفل، في نظره إلى والديه، ومحبّته الشديدة لهما، وإعجابه بهما، فيراهما قدوة له في كلّ شيء.

 وكلّما كبر اتّسعت مفاهيمه عن الحياة، وازداد إدراكه لمعاني الحقّ والخير، وتذوّقه للجمال، فيزداد تطلّعه إلى المثل الأعلى، وقد تنزل منزلة والديه أو أحدهما عن ذلك، عندما يراهما لا يتحقّقان بهذه المعاني.

 ورحلة الإنسان في البحث عن المثل الأعلى، والتطلّع إليه شاقّة عسيرة، إذ كثيراً ما يصدّه عن ذلك الظنّ والهوى، إلاّ أن يتداركه الوحي الإلهيّ، ويستعصم بحبل الله المتين، الذي يرسم طريقه، ويرشد عقله، ويسدّد خطاه.

وقد لخّص القرآن الكريم أسباب شقاء الإنسان وضلاله في سببين رئيسيّين: الظنّ، في مقابل العلم، واتّباع الهوى، في مقابل اتّباع الحقّ، فقال تعالى: {وما لهم به من علم، إن يتّبعون إلاّ الظنّ، وإن الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}، وجمع بين ذكر السببين في قوله: {إن يتّبعون إلاّ الظنّ، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربّهم الهدى}، فالظنّ في مقابل العلم، واتّباع الهوى في مقابل الحقّ، والعلم الحقّ؛ هو تزاوج العلم مع الوحي الإلهيّ، واستمداده منه، وهو ما عبّرت عنه هذه الآية الكريمة " بالهدى "، والتقوى بمفهومها الشامل: هي تسامي النفس في مدارج العلم الحقّ، ورقيّها في أيّ مجال من مجالاته. ومن هذا الفهم يتبيّن لنا علاقة التقوى بالعلم، واستمدادها منه.

فآفة العلم الظنّ، وآفة الحقّ الهوى، أي أن يكون ظنّاً قد لبّس لبوس العلم، وهوى قد لبّس لبوس الحقّ، وممّا جاء عن عليّ رضي الله عنه، قوله في خطبة من خطبه: ".. وإن أخوف ما أخاف عليكم: اتّباع الهوى، وطول الأمل؛ فإن اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، وطول الأمل ينسي الآخرة "

ولا ننسى في هذه المناسبة أن القرآن ميّز بين نوعين من العلم: العلم الظاهري، الذي نعى على أصحابه بقوله سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم7]، وهو قاصر عن الآخرة، ولا ينفكّ عن الظنّ وعن الهوى، والعلم الحقّ وهو ما تحدّثنا عنه آنفاً.

 والإنسان في هذه الرحلة، كثيراً ما يخدعه شياطين الإنس والجنّ عن طريقه؛

 فيظنّ المثل الأعلى الذي يحقّق له السعادة في المتع الحسّية، والإشباع الجسدي، فيمضي في هذه السبيل إلى غايتها، ويغرق في مستنقع لا يفيق منه، ولا يصحو إلاّ وهو يودّع هذه الحياة، فلا يصل إلى شيء ممّا لهث وراءه، وأفنى حياته في طلبه.

وقد يتراءى له المثل الأعلى الذي يحقّق له السعادة، في الإشباع العقليّ، والثقافة الفكريّة الواسعة، والقوّة الكلاميّة المتفوّقة، وغلبة الأقران في كلّ ميدان، فيمضي في هذه الطريق الشاقّة إلى غايتها، ويتخبّط في متاهات لا يخرج منها إلاّ بالأوهام، ولا يجني من سعيه إلاّ الشكّ والقلق والركام، ولا يصل من رحلة شقائه إلاّ إلى ظلمات وقتام.

وقد يتراءى له المثل الأعلى الذي يحقّق له السعادة، في الإشباع النفسيّ العاطفيّ، والجنوح الخياليّ المبدع، فيبدع في الآداب والفنون ويمضي في هذا الشوط إلى غايته، فلا تسدّ جوعته ولا ينطفئ ظمأه، ويبقى يلهث خلف السراب، وقد يخدع بما وصل إليه، ويزيّن له سوء عمله فيراه حسناً.

وعندما يسقط الإنسان، ويغرق في اتّجاه من هذه الاتّجاهات، وهو يبحث عن المثل الأعلى، فقلّ أن يرتفع، ويعيد البحث والنظر كرّة أخرى، وذلك لأنه يزيّن له ما هو فيه، ويهوّن عليه ما اعتاده، أو تلبّس عليه الأمور، فيتحمّس لها ويتعصّب، إذ تصبح جزءاً من شخصيّته وحياته، أو يفنى شبابه، وينقضي عمره وهو غارق في أوهامه، فلا يمكنه المراجعة والاستدراك.

ثمّ إن كلّ هذه العلاقات؛ الجسديّة، أو العقليّة، أو النفسيّة، لا تغني الإنسان شيئاً، لأنه لا يخرج بها عن دائرة نفسه، ووجوده المادّي الذي يحسّ به من أعماق داخله وكيانه أنه بحاجة إلى وجود أعلى منه، وأعظم منه، وأقوى منه، وأوسع منه، يمنحه القوّة، ويسكب في نفسه الأمل والطمأنينة، ويسمو بروحه عن أن تكون سجينة جسده ووجوده المادّي، وهو عندما يجد هذا المثل الأعلى يمنحه كلّ حبّه، وكل تعظيمه، وكل تقديسه وطاعته، ولن يجد ذلك المثل الأعلى إلاّ في الله جلّ جلاله.

ومن رحمة الله وإكرامه للإنسان، أن جعل له من الإيمان وحقائقه ما يسمو بعلاقاته كلّها ليكون فيها على أتمّ سعادة وأكملها، وجعل له مثلاً أعلى لكلّ هذه الحقائق؛ فالمثل الأعلى للعلاقات الجسديّة نعيم الآخرة، وفيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والمثل الأعلى للعلاقات العقليّة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وكمالاته، ومعرفة الدين الحقّ الذي ارتضاه لعباده، والمثل الأعلى للعلاقات النفسيّة المعاني الإيمانيّة من حبّ الله وخشيته والتوكّل عليه ومراقبته، وابتغاء مرضاته ومثوبته، وغير ذلك وسواه.

 فالمثل الأعلى الحقّ إذن، يبتدئ في نفس الإنسان، ومن داخله، وهو قائم في أعماق كيانه ووجدانه، يبتدئ من فطرة الإيمان بالله تعالى، التي فطر الناس، كلّ الناس عليها، الإيمان بالله الواحد الأحد، المتّصف بكلّ كمال، والمنزّه عن كلّ نقصان، ذي الجلال والإكرام، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى.

وقد جاء ذكر المثل الأعلى في القرآن الكريم في مناسبتين:

قال تعالى: {للذينَ لا يؤمنونَ بالآخرةِ مَثَلُ السَّوْءِ، وللهِ المثلُ الأعلى، وهو العزيزُ الحكيمُ} النحل /60/.

وقال سبحانه: {وهو الذي يَبدأ الخلقَ، ثمّ يُعيدُهُ، وهو أهونُ عليه، وله المَثَلُ الأعلى، في السمواتِ والأرضِ، وهو العزيزُ الحكيمُ} الروم /27/.

وقد جاء عن السلف في تفسير " المثل الأعلى " في الآيتين قولان:

 الأوّل: الغنى الكامل، والجود الشامل، والعلم الواسع، والصف الأعلى، والكمال المطلق من كلّ وجه.

 والثاني: قول: لا إله إلاّ الله، أو {ليسَ كمثلِهِ شَيءٌ}.

فالقولان متقاربان، ومؤدّاهما واحد.

فالله سبحانه هو المثل الأعلى، وله المثل الأعلى.

والذين يعبدون أنداداً وطواغيت من دون الله سبحانه، يتوجّهون إلى ما ليس بمثل أعلى، بل قد يكونون أرفع منه صفات، وهو أدنى منهم في الوجود، وأبعد عن أيّ كمال، فكيف يكون شريكاً لله أو ندّاً.؟

قال تعالى: {ويعبدونَ مِن دونِ اللهِ ما لا يملكُ لهم رِزقاً، من السمواتِ والأرضِ شيئاً ولا يستطيعون، فلا تضربُوا للهِ الأمثالَ، إنّ الله يعلمُ، وأنتم لا تَعلمونَ} النحل، الآيتان / 73  74 /.

وقال سبحانه: {إنّ الذين تدعُون من دونِ الله عبادٌ أمثالُكم، فادعوهُم، فليستجيبوا لكم، إن كنتم صادقين، ألهم أرجُلٌ، يمشون بها، أم لهم أيدٍ يبطشون بها، أم لهم أعينٌ، يُبصرون بها، أم لهم آذانٌ، يسمعون بها.؟! قلِ: ادعُوا شركاءَكم، ثمّ كِيدونِ فلا تُنظِرون} الأعراف، الآيتان / 194  195 /، وانظر ما قبلها، وما بعدها من الآيات.

ولقد كان من حكمة الله تعالى، وعظيم رحمته بعباده، ولطفه بهم أن أرسل لهم رسلاً من أنفسهم، مبشّرين ومنذرين، وجعلهم نماذج إنسانيّة عليا في كلّ الصفات، وعصمهم عن الخطايا والسيّئات، فهم الأسوة الحسنة، والمثل الأعلى للبشريّة، تتأسّى بهم، وتقتفي خطاهم، وختمهم بسيّد ولد آدم، سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، ختم به النبيّين، وجمع له كمالات من سبقه من المرسلين، وزاده من الفضائل والخصائص، ما لا يحيط به إلاّ ربّ العالمين، فقال سبحانه: {أُولئكَ الذين هدى الله، فبهداهُمُ اقتَدِه} الأنعام /90/.

وخاطب أمّته بقوله سبحانه: {لقد كان لكم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ، لمن كان يرجُو الله واليومَ الآخِرَ، وذكرَ الله كثيراً} الأحزاب /21/.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصّ هذه الآية، أسوة لأمّته في كلّ شأن، ومن هنا فإننا نقول بكلّ تعميم وتأكيد: لم ينبغ رجل في هذه الأمّة، في أمر من الحقّ أو الخير، إلاّ وله أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، بدءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يوم الناس هذا.

ثمّ إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تأكيداً منه على أهمّية المثل الأعلى وأثره في كيان الإنسان وحياته، فقد حدّثنا عن فضائل أصحابه، ومناقب الأنبياء من قبله، فلا تجد كتاباً من كتب السنّة والحديث الشريف إلاّ وفيه أبواب خاصّة بالفضائل والمناقب.

من ذلك حَديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:

( أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ الله عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيناً، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ) [رواه الترمذي /3724/ و /3723/ في كتاب المناقب، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وابن ماجة وزاد فيه: ( وأقضاهم علي بن أبي طالب )، ورواه أحمد في المسند /12437/ و /13479/].

وصلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه وسلّم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين