رحيل العلماء العاملين، ليس كرحيل غيرهم، ورحيل الأستاذ الدكتور العلامة نور الدين عتر، ليس كرحيل سواه. بقبض العالم المحقق الموصول بمشكاة النبوة، يُقبض علم كثير، في ضعف قدَريٍّ متسلسل. واجب الناس والعلماء الأحياء حياله العمل بظاهر الأمر، وبالدعوة الهادية الصافية، وإعداد الخلفاء، مع ملاحظة القدَر بقلوبهم.
في رحيل شيخنا-سحت رمسه هواطل الرحمات- أكتفي بموقفين مِن شيء كثير لا تسعف به الذاكرة، أو ربما يوقع القارئ في ملال.
١- سألته مرة- وأنا طالب في الكلية- عن حديث نبوي قرأته في كتاب مختص بعلم التربية- فيما أذكر- وقد عزا الكاتبُ الحديثَ إلى مستدرك الحاكم رحمه الله تعالى، وقد كان لفظُ الحديث آنئذ غريبًا على مثلي، فقال لي-وقد همَّ بالدخول إلى قاعة محاضرته-: "اذهب إلى المكتبة، وابحث في المستدرك، وعد إليّ، ولا يمنعنك دخولي المحاضرة من إخباري بما استجد معك، فأنا أنتظرك".
وحقًا وجدتُ الحديث في المستدرك- وكان تلك أول مراجعة لي فيه في طبعته القديمة ذات القطع الكبير- فعدت إليه، وكان في محاضرة لطلاب الدراسات العليا، فأخبرته بأني- بحمد الله تعالى- وجدت الحديث، فقال لي: "هل علق الذهبي بشيء؟"
قلت: لا أدري، فقال: "انظر ماذا قال الذهبي، وعد إليّ والكتاب معك"، وللمرة الثانية عدت إليه بالكتاب فقرأت عليه تعليق الذهبي. وطلاب القاعة يتابعون ما يجري بين أستاذ كبير، وطالب في سنواته الأولى في الجامعة.
ثم شجعني على البحث والدقة والتثبت.
ومازلت إلى يوم الناس هذا أحفظ الحديث وتعليقَ الذهبي، فكان درسًا لي في التثبت لا أنساه، ودرسا لطلاب الدراسات العليا، أن يعطوا الطالب المبتدئ كل اهتمام وصبر وتدريب. رحم الله تعالى الحاكم والذهبي والعتر، ونفع بما ورثوا مِن علم. كما أنه ربما أذن لي فحضرت له درسا في المكتبة لطلاب الدراسات العليا في قسم التفسير، أو الحديث، مع أني من قسم آخر.
٢- قرر مرة أستاذنا- رحمه الله تعالى- في مجموعة من طلاب الدراسات العليا، أن نقرأ كتابًا في مصطلح الحديث، وأن نحفظ مئة حديث من موطأ الإمام مالك، برواية محمد بن الحسن الشيباني، رحمهما الله تعالى، فاختار قراءة كتاب شرح البيقونية لشيخه وخاله العلامة الشيخ عبدالله سراج الدين رحمه الله تعالى، على أربع لقاءات-فيما أذكر- بطريقة تحضير ربع الكتاب في كل لقاء، ثم اختبار ورقي في أول اللقاء، ثم مراجعة للمهم مع الشيخ. وكنا نتوقع كتابًا صعب العبارة، لعالم متقدم.
وكان قد حدثنا غير مرة عن إعجاب أستاذه العلامة الدكتور محمد محمد السماحي رحمه الله تعالى أيام طلبه في الأزهر، بهذا الكتاب وإكباره مؤلفه، ومما بقي في ذهني أنه قال له وهو لا يعلم أن المؤلِّفَ شيخُه وخالُه: "مؤلف هذا الكتاب تعب كثيرًا ليضع خلاصة الفن مع نسبة الأقوال إلى أصحابها. هاضمًا جهده واختياره الراجح".
وكانت اللقاءات كما رُتب لها، ومن طريف القصة أن الشيخ اختار بيتَه مكانًا للقاء، في حي الإذاعة في حلب. وكنت حينها مقيمًا في دمشق، فكيف العمل؟
ولكن خشيتي من أن يفوتني اللقاء، جعلتني لا أتردد في الانضمام للمجموعة.
وفي اليوم المحدد سافرت إلى حلب- حيث بيتي ووالديّ- رحمهما الله تعالى، فحضرت اللقاء في بيت الشيخ ثم عدت إلى دمشق، دون أن أعرج على بيتنا زيارة ولا اتصالًا ولا تزودًا، ولم أخبر أحدًا: لا الشيخ، ولا الإخوة، ولا والدي؛ فكيف سأقنع والدي أني قطعت خمس ساعات، لحضور ساعة ونصف، وسأعود في خمس أخرى؟
أما أمي فلم يكن يعسر علي إقناعها.
وهاهنا كليمة:
أنه عند رحيل عالم رباني كبير-كما في مصابنا اليوم- يكرر الإخوة على صفحاتهم ومواقعهم ترجمته، وخير مِن هذا- في ظني- أن يذكر مريد الكتابة شيئًا ينفرد به- فيما يَعلم-، أو قصة أو حادثة أو فائدة أو نحو هذا. مما يثمر إضاءة جوانب متعددة من حياة الراحل. ولا كذلك الترجمة المعادة بلا إضافة ذات بال.
والله تعالى أعلم.
رحم الله تعالى العالم المنوّر، نور الدين، وأعلى درجاته، وأنزله منازل المقربين.
اللهم نوِّر مضجعه لقاء ما نوّر بالسنة والعلم عقولًا وقلوبًا.
اللهم وأكرمه بمرافقة حبيبه وحبيبنا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم.
عن يمين الشيخ سمير الشاوي وخلفه كاتب المقال يحيى المصري وعن يسار الشيخ الشيخ الليبي الراحل أحمد عمر الهجينة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول