
-12-
[التعاون مع المستويات المختلفة للناس فهماً ووعياً وتنفيذاً]
-12- ثالثاً : وممَّا يجبُ أن يتحلَّى به المرءُ في مَجَال العمل الجماعيِّ: القدرة على التعاون مع المستويات المختلفة في الفهم والوعي، والتنفيذ والأخذ بالعزائم.
إنَّ المرءَ الذي يدركُ حقيقةَ اختلاف الناس في طاقاتهم ومستوياتهم لا يضيق صدراً بما يراه منهم من مواقف قد لا ترتقي إلى المستوى الذي يرتضيه هو لنفسه، أو إلى المستوى الذي يراه ضرورياً في جميع الأفراد تبعاً لقوة إيمانه ومدى تَمثُّله لفكرته وعقيدته.
إنَّ كثيراً من الأفراد، وبخاصَّة أولئك المتميزين الذين حباهم الله من المواهب ما يجعلهم يتفوَّقون على أقرانهم في أيِّ ناحية من النواحي، قد يَسُودُهم شعورٌ من السخط والاسْتياء عندما لا يجدون فيمن حولهم من يشاركهم في الأخذ بالعزائم، فتراهم لا يستطيعون التعاون مع الناس، وقد ينتهي بهم الأمر إلى شعور من التعالي يصل بهم إلى الكبْر والغرور، ويبتعد بهم عن خُلُق التواضع للمؤمنين والذلَّة لهم.
[من أدبيَّات العمل الجماعي: عدم أخذ الجماعة بالشدة]
1 – إنَّ على المرء في مجال العمل الجماعي ألا يضيق صدراً بعدم مُشاركة النَّاس له فيما ارتضاه لنفسه من مستوى عال من الأخذ بالعزائم والشدَّة على النفس والصلابة في التمسَّك، إنَّ عليه أن يتذكَّر أنَّ إخوانَه من حوله وإن لم يشاركوه في كل ما ذكرناه فإنهم يتَّفقون معه على طريقة واحدة ومنهج واحد في الفهم والوعي، ويتَّفقون معه في الفهم المتكامل الشامل للإسلام ومنهجه في الحياة، ويتفقون معه على أساسيات العمل والحركة.
وإنَّ عليه أن يدركَ أنَّ حركة الناس بهذا الدين بَعيداً عن الفهم الشامل لروح الإسلام، وبعيداً عن الأساسيات في العمل والحركة لن تكونَ ذات غَناء ولن تثمر أيَّ فائدة يرجوها مؤمنٌ مُخْلص واعي.
إنَّ الوقوف على المنهج السديد في العمل والحركة، يُمثِّل القوَّة التي أُمِرَ المؤمنون بإعداد ما يَستطيعون منها، ولن يكون البديلُ عن هذه القوَّة في الوعي والحركة والعمل قوة أخرى في الأخذ بالعزائم والشدَّة على النفس والصلابة في التمسك، فإنَّ لكل قوة مَجالاً ولا تغني واحدةٌ عن أخرى.
وإنَّ مما يؤكِّد هذا المعنى ويلقي الضوءَ على ضَرورة التعاون مع الناس، وإن ضعفت إرادتهم عن الأخذ بالعزائم والشدَّة على النفس قول النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه عندما اختصم مع أميره خالد بن الوليد رضي الله عنه: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا، أَوْ غَنَمًا، فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ، وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ» [أخرجه مسلم، من حديث عوف بن مالك].
[استثمار النقاط الإيجابيَّة في كل فرد]
2 – إنَّ المرءَ الذي يتذوَّق مُتطلبات العمل الجماعي يستطيع أن يجد في كل فرد من حوله بعضَ النقاط الإيجابيَّة التي يستطيع أن يتعاونَ معه على أساسها مهما تكن هذه النقاط جزئيَّة أو ذات أهميَّة محدودة، وما على المرء في هذا المجال إلا أن يعمل على تطوير مَقدرته على كشف نقاط الالتقاء، ويتعوَّد الصبر وسَعَة الصدر حتى يتقبَّل مُستويات الناس، ويُسلِّم لهم أحوالهم.
وما عليه في هذا السبيل إلا أن يحرص على آداب التعاون ومُستلزماته حتى يصلَ بمجموعته إلى الانسجام والتوافق، وإلى شعور عَميق بالوحدة تجمعهم وتشد بعضهم إلى بعض بعيداً عن كل ما يُؤدِّي إلى التدابر والتَّفرُّق والانقسام.
إنَّ النُّصحَ والوعظَ وشحذَ الهمم واجبٌ أساسيٌّ في عُنق كل مسلم، ولكن الذي أثبتناه من ضرورة التكيُّف مع مُستويات الناس المختلفة لا يَعني إلا أن يكونَ النصحُ والوعظُ وشحذ همم الناس وَاعياً، وبَعيداً عن تَدمير وحدة الصف، وثقة الناس بقَادتهم وأمرائهم ومن كانوا يَثقون بهم.
إنَّ للنصيحة آداباً يجب أن يتخلَّق بها كل ناصح، وإن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداباً كذلك وشروطاً، وإنَّ من أهمِّ واجبات الناصح المخلص والداعية الواعي: ألا يفوت بما يدعو إليه من الخير أموراً ومَصالح أشدَّ ضرورة للمسلمين وللتجمُّع الإسلامي.
إنَّ درءَ المفاسد مُقدَّم على جَلب المصالح، وإنَّ من الحكمة أن تترك السعي للوصول إلى مصلحة ما –ولو كان فيها الخير والصواب- إذا كانت تُفَوِّت مصلحةً في مرتبتها أو أعلى منها. وإنَّ من أهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن الواعي هو جمع الكلمة، والبعد والحذر الشديد من تَدمير ثقة الناس بالعمل الجماعي وضرورته وجديته.
وقد ذكر القاضي أبو بكر العربي في (العواصم) تعليقاً جديراً بالتأمُّل العميق فقال: (وأما نفيه – أي سيدنا عثمان – أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل! كان أبو ذر زاهداً، وكان يُقَرِّع عمال عثمان ويتلو عليهم: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {التوبة:34} ويراهم يتَّسعون في المراكب والملابس حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بينِ أيديهم، وهو غيرُ لازم، قال ابن عمر وغيره من الصحابة: إنَّ ما أُدِّيتْ زكاته فليسَ بكنز، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: (لو اعتزلت) معناه: (إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإنَّ للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها، ومن كان على طريقة أبي ذرٍّ رضي الله عنه فحاله يَقتضي أن يَنفردَ بنفسه، أو يخالط، ويُسَلِّم لكلِّ أحد حَالَه مما ليس بحرام في الشريعة.
فخرج أبو ذر إلى الربذة زاهداً فَاضلاً ، وتَرك جِلَّةً فضلاء، وكلٌّ على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا، فسبحان مرتِّب المنازل) اهـ.
إنَّ هذه الوقفة عند ذلك العرض الذي أشار به سيدنا عثمان على سيدنا أبي ذر رضي الله عنهم لتعني أنَّ من شروط أهليَّة الفرد التعامل مع الناس والاشتراك معهم في أيِّ عمل أن يسلِّم أحوالهم وأوضاعهم التي لا نصَّ على حُرمتها، ولا نصَّ على وجوب البُعد عنها، وليتحفَّظ لنفسه بعد ذلك بما يرتضيه لها من الأخذ بالعزائم، والشدَّة والحزم في التمسُّك والاقتداء بأحوال السلف الصالح.
وإن لم يعِ الفردُ مثلَ هذه المتطلبات للعمل الجماعي فما عليه إلا أن يدرك أنَّه ليس أهلاً للعمل والاشتراك مع الناس في أيِّ عمل، وليسمع كلمة سيدنا عثمان رضي الله عنه: (لو اعتزلت) تلك الكلمة التي تضعُ المرءَ على مَفرق الطريق بين العزلة والانفراد، وبين التعامل الصامت المنتج البعيد عن الاعتراض والإنكار.
الحلقة السابقة هنا
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول