أوْلُ ما عَرفتُ الشّنقيطي

 

-1-

كنت في مولد هذا القرن غلاماً ناشئاً أهوى الأدب وأحفظ الشعر وأعالج القريض. وكان مجلس المختار يقع في الركن الغربي من الرواق العباسي بالأزهر، في رفقة من الطلاب كانوا كأنجم الثريا لا يفترقون لا في الدرس ولا في المذاكرة ولا في الرياضة.

 

وكنا على خلاف إخواننا الأزهريين في ذلك العهد نقرأ الصحف ونغشى الأندية ونتتبع المعارك الأدبية في الضياء اليازجي ومصباح الشرق للمويلحي، و((المؤيد)) لعلي يوسف.

 

وكان حديثنا وحديث المتأدبين يدور على ما تتناقله الأفواه وتتداوله الصحف من الجدل المضطرم الحاد بين الحافظ الحجة الشيخ محمد محمود الشنقيطي وخصومه من علماء الأزهر وأدباء العصر.

 

وكان الشيخ قد هاجر منذ قريب من مدينة الرسول إلى قاهرة المعز فوجد من الإمام محمد عبده لقاءً جميلاً وعطفاً كريماً، فأجرى عليه رزقاً من الأوقاف، ووكل إليه إحياء الأمهات العربية الكبرى، فنشر (المخصص) وحرر (القاموس) وأملى الأراجيز، وإلى ذلك يشير في رثائه لنفسه من قصيدته الميمية المطولة:

تذكرت من يبكي علي فلم أجد *** ​​سوى كتب تختان بعدي أو علمي

وغير الفتى المفتى محمد عبده *** ​​صديق الصدوق الصادق الود والكلم

فعُصم العلوم كنت أر لها *** إذا اعتاصت ارواها على كل ذي فهم

مخصصها المطبوع يشهد مفحصاً​​ *** بحفظي عند الحذف والبتر والخرم

بذا يشهد المفتي وأصحاب طبعه *** ​​ولا يكتمون الحق كتمان من بكمى

وقاموسها المشهور يشهد في الضحى *** ​​بذاك وفي بيض الليالي وفي الدهم

 

وكان الأزهر قد درج طويلاً على إغفال اللغة والأدب من مناهجه حتى أدخلهما الأستاذ الإمام في الدراسة الحرة، وجعل دراسة اللغة للشيخ الشنقيطي، ودراسة الأدب للشيخ المرصفي.

 

وكان ابن التلاميد آية من آيات الله في حفظ اللغة والحديث والشعر والأخبار والأمثال والأنساب لا يند عن ذهنه من كل أولئك نص ولا سند ولا رواية.

 

وكان شموس الطبع حاد البادرة قوي العارضة، يجادل عن نفسه بالجواب الحاضر والدليل المفحم واللسان السليط.

 

كان لا ينفك يتحدى رجال اللغة بالمسائل الدقيقة والنوادر الغريبة مستعيناً على جهلهم بعلمه، أو على نسيانهم بحفظه، حتى هابوا جانبه وكرهوا لقاءه، وأصبحت حياته سلسلة من الخصومات الأدبية سجلها بالشعر اللاذع والنثر القارص في كتابه (الحماسة).

 

وأكثر هذه الخصومات كانت بينه وبين أحمد البرزنجي في المدينة، والنبيلي في تونس، وحمزة فتح الله وإبراهيم اليازجي وسليم البشري وعبد الكريم سلمان في القاهرة.

 

اجتمع ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في دار السيد عبد الباقي البكري بجماعة من كبار العلماء يتصدرهم إمام المالكية الشيخ سليم البشري.

فخلا لبعضهم أن يتحرش به فسأله سؤال المنكر عن رأيه في صرف عمر وخروجه على إجماع النحاة.

فقال له: إنما صرفته بالأدلة القاطعة والشواهد الصريحة، وخطأت جميع النحويين من سيبويه إلى ابن هشام في قولهم إن عمراً ممنوع من الصرف لأنه معدول عن عامر، والحق اليقين أنه جمع لعمرة وهي الحج الأصغر، وبه سمى عمر ابن الخطاب ومن قبله ومن بعده، فهو علم منقول عن جمع نكرة، وما كان كذلك من الأعلام صرف اتباعاً لأصله، ككلاب وضباب وأنصار وأنمار، وجمعت من الشواهد على صرف عمر مائة شاهد ونيفا، منها قول كعب الأشقري:

يا أيها الزاري على عمرٍ​​ *** قد قلت فيه غير ما تعلم

 

ومنها قول بشار العقيلي:

إذا أيقظتك حروب العدا *** ​​فنبه لها عمراً ثم نم

 

فقال الشيخ عبد الكريم سلمان: ولم لا يكون التنوين في بيت بشار للضرورة، وتكون الرواية في بيت كعب بالفتح الممدود لا بالكسر المنون؟

فقال له في حدة عصبية ولهجة مغربية: إنك بالعروض أجهل منك بالنحو، ومثلك لا يناقش!.

فهم بالرد الشيخ سلمان، ولكن الشيخ البشري مال بالنقاش إلى جهة يراه القوم فيها واحد الآحاد وهي السنة.

 

فقال للشنقيطي: إنك تلبس خفين أسودين وذلك من لباس النصارى؟!

فقال له: إنما ألبس ما كان يلبس الرسول، أما أنتم فتلبسون الخفاف الحمر وهي لباس نساء المغرب، والخفاف الصفر وهي لباس نساء المشرق، فأنكر البشري أن يكون الرسول صلوات الله عليه قد لبس خفين أسودين!

وقال: إن الإجماع منعقد على خلاف ذلك!!

فرد عليه: بأن رواية الأثبات تثبت أن النجاشي أهدى إلى الرسول خفين أسودين فلبسهما.

ثم انفجر عليه بما روى الترمذي وابن ماجه وأبو داود والبهيقي، يؤديه عن ظهر قلبه كأنما كان يتلو من كتاب.

فلم يجد الشيخ البشري -رحمه الله- درءاً لهذا السيل إلا أن يطعن في الرواية والرواة، وانتقلت المجادلة من دار البكري إلى دور الصحف، فكتب الشيوخ، ورد الشيخ، واستطار بينهم الخلاف أكثر العام فسماه الناس ((عام الخفين الأسودين)).

 

-2-

ترامى إلى مجلسنا بالرواق ذات ليلة أن الشيخ الشنقيطي قد نشر كتاباً سماه (الحماسة السنية، الكاملة المزية، في الرحلة العلمية الشنقيطية التركزية) صدرها بطولة له في خمسة ومائتي بيت من بحر الطويل وقافية الميم مطلعها:

ألا طرقت ميّ فتى مطلع النجم​​ *** غريباً عن الأوطان في أمم العُجم

 

روى فيها حديث سفره إلى مدينة استوكهلم عاصمة السويد إجابة لدعوة ملكها أوسكار الثاني ليشهد مؤتمر المستشرقين الثامن الذي اجتمع بها في سنة 1306هـ، فوصف الرحلة ومدح الداعي وذكر جملة من أمر حياته ورحلاته وتحقيقاته، ثم ختمها برثاء نفسه وسردٍ لأسماء أشهر القبائل العربية جرياً على المنهج الذي اقترحه عليه سفير السويد بمصر الكونت كارلودي لندبرج، وهو مستشرق سمى نفسه (عمر السويدي) ونشر بعض المخطوطات العربية ك (شرح ديوان زهير) للأعلم الأندلسي الشنتمري.

وكان الشيخ يومئذ في الآستانة فسافر إليها ليلقاه ويدعوه.

فشرط عليه الشيخ بعد إذن الخليفة عبد الحميد الثاني أن يصطحب ثلاثة من علماء العربية ومؤذناً من المتعلمين وطاهياً من المسلمين.

فأجابه إلى ما شرط. ولكن الرحلة لم تتم لأسباب يعرفها قصر الخلافة.

 

كان الشيخ لا يبيع هذا الكتاب وإنما كان يهديه إلى من يحسن القراءة فيه من طلاب العلم أمامه.

وكنت في ذلك الحين هش العود لا أظنني أثبت على عجمه! فتفاديت ذلك الحرج بنظم قصيدة في مدحه من بحر قصيدته وقافيتها، ثم حملتها متوكلاً على الله وذهبت إليه.

 

وكان صديقي الطيب الذكر محمود حسن زناتي قد سبقني إليه فأثبت قدرته وأخذ نسخته.

فصحبني إلى داره وقت الأصيل  -وكانت بأول شارع الباطنية من حي الأزهر- فدخلناها فإذا هي دويرة ذات طابقين صغيرين ونصف طابق فوق السطح كان يسكنه هو وزوجه وخادمه.

 

صعدنا إليه في درج براه الزمن وعوجه فلا تستقر عليه قدم.

ودخلنا عليه ردهة غير مسقوفة انسدلت على نافذتها ستارة فلا تطَّلع على غيبها عين.

كان جالساً على فروة بيضاء فوق كليم انبسط على نصف المكان وانتثرت على حواشيه بعض الأدوات المنزلية.

 

لم أكن رأيت الشيخ من قبل.. كان شخصاً ينصرُّ كما يقولون في صرة: هيكل ضئيل، وبدن نحيل، ووجه ضامر، ولون أخضر، وصوت خفيض.

فمن يره أول مرة لا يصدق أن هذا الجرم الصغير قد جاب البر والبحر، وطاف الشرق والغرب، وكافح الأنداد والخصوم، ووعى صدره الضيق معاجم اللغة وصحاح السنة ودواوين الشعر وعلوم الأدب.

وكان يلبس قفطاناً أبيض من القطن، ويرتدي جبة دكناء من الصوف، ويعتم عمامة مسكية قد أرخى لها عذبة على ظهره.

فلما رآنا هش بعينه وبش بفمه، فقبلنا يده ثم جلسنا بين يديه.

كان كل ما في الردهة يرف بالهدوء ويشف على النظافة، فلا حس ولا حركة ولا هباءة إلا ما يقع في أسماعنا من أصوات الباعة على بعد.

وكانت الخادم الحبشية العجوز قد أقبلت في سكون وأدب بأكواب الشاي الأخضر فشربنا.

ثم أخرجت القصيدة من جيبي وأخذت أتلوها في رجفة خفية وهيبة ظاهرة، والشيخ يستمع ولا يظهر على مخايل وجهه البرنزي ما ينم على استحسانه أو استهجانه؛ حتى بلغت إلى قولي منها:

رفعتَ دِرَفْس الدين بالعلم والتقى *** ​​وصلت لسان العُرب بالحفظ والفهم

فقال: ما الدرفس؟

قلت: الراية.

فقال: أتحفظ شاهداً عليها؟

قلت: نعم، قول البحتري:

والمنايا موائل وأنو شر​​وان يزجي *** الصفوف تحت الدرفس

 

فقال: أحسنت، بارك الله فيك.

وانتهت التلاوة والزيارة بأخذ النسخة. 

ثم لزمته بعد ذلك إلى أن فارقنا إلى لقاء ربه.

 

لزمته أنا وأربعة أو خمسة من الرفاق فكنا نصلي معه الجمعة من كل أسبوع في الجامع الأزهر.

ثم نجلس أمامه بالجانب الأيمن من المنبر فنقرأ عليه ساعة وبعض الساعة ثم ينصرف إلى داره، قرأنا عليه كتابه (الحماسة) ثم ديوان المعلقات.

وكانت طريقته في التلقين أن يعني بدقة الضبط وصحة الرواية؛ فلا يشرح لفظاً ولا يفسر معنى إلا إذا سألناه.

 

ومن النوادر التي أذكرها: أن طالباً ممن كانوا معنا كانت فيه سذاجة وغفلة، وكانت إحدى عينيه مظلمة، وكان أحدنا يقرأ مطولة الشيخ الأولى وفيها قوله:

      *إلى مثلها يصبو الحليم صبابة*

فقال الطالب: إن هذه الشطرة مسروقة من معلقة امرئ القيس!

فقال الشيخ في غضب وحدة: المسروقة عينك العوراء! إن للعرب أبياتاً وأشطاراً شاعت شيوع الأمثال فلكل شاعر أن يستعملها كقولهم:

      *وقوفاً بها صحبي على مطيهم*

وقولهم:

      *تبصر خليلي هل ترى من ظعائن*

وقولهم:

    *فدعها وسل الهم عنك بحسرة*

وهذا من ذاك.

 

كذلك أذكر: أن الشيخ كان كلما انفتل من صلاة الجمعة دعا بالشيخ إمام السقا خطيب الجامع الأزهر في تلك الأيام، وكان رجلاً طاهر القلب ظاهر الورع.

فإذا جاءه أخذ يعنفه أشد التعنيف على اقترافه الكذب على الرسول بما أورد من الأحاديث الموضوعة في خطبته، ثم لا يخليه حتى يستغفر الله ويتوب.

 

فلما تكرر هذا الموقف؛ كان الشيخ السقا يتحاشاه فلا يكاد يخرج من الصلاة بالتسليم حتى يخرج من المسجد بالركض!

 

رحم الله الشيخ ومن جرى ذكرهم معه من الشيوخ، وجزاه الخير وجزاهم على ما قدموا للغة القرآن وفقه السنة وعلم العربية من حسن القول وإخلاص العمل وصدق الغيرة.