وَرَحَلَ مُقرئُ المسجدِ الأقصى، وغِرِّيدُ فلسطين

 

 وَدَّعَت فلسطينُ بالأمسِ بَدْرًا من بُـدورِ سمائِها، ونَجْمًـا مِن نُجُومِ عليـائِها، وقامةً من قاماتها السَّامقة، وهامةً مِن هاماتِها الشَّاهقة، الشَّيخُ الشَّهـير، والمقرئُ الكبير، والأستاذُ الأديب محمد رشاد بن عبد السَّلام الشَّريف، الحُسيني؛ مقرئُ المسجـد الأقصى المُبارك، وأستـاذُ الجـيل في اللغة العربية، والتجويد، وعلومِ القرآن، وأحدُ أعلامِ القُرَّاء في عالمنا الإسلاميِّ، الذينَ نجلتهم الأرض المُباركة (#فلسطين). 

وُلد –رحمهُ الله، وأنالَه رضاه- بمدينةِ الخليل سنةَ (1925م)، ويرجعُ نسبُه الشريف إلى الحُسين بن عليٍّ -رضي الله عنهما-.

 نشأَ في كَنِفِ والدِه، الشَّيخ الأديب عبد السلام الشريف -الذي تلقّى عُلومه في الأزهر-؛ وكانَ مِن أهلِ العلمِ، والأدبِ، والشعر فانتفعَ به، وكانَ لذلكَ أبلغُ الأَثَر في تنشئةِ الشيخ محمد رشاد تنشئةً علميَّة. 

حفظَ الفقيدُ القرآنَ الكريم في سنٍّ مُبكرةٍ، وتتلمذَ على عَمِّه الشيخ ضياء الدين الشريف -من خريجي الأزهر كذلك-. ولمَّا تأهَّلَ، واستقامت لغتُه، وصحَّت لهجَتُه قرأَ -سنةَ (1362هـ)- القُرآنَ الكريم على شيخه الكبير، المُقرئ حُسين بن علي أبو سنينة، الخليلي (ت 1387هـ) -أحد كبار قُراء فلسطين، والعالم الإسلامي- بروايتي: حفص، وورش مِن طريقة الشَّاطبيَّة، ونالَ شرفَ الإجازة، وكان لها مِن أهل الحِيازة، واتّصل سندُه بالنبيِّ المصطفى –صلى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وشيخه أبو سنينة مُجازٌ مِن أستاذِه العلامة، شيخ الجامع #الأزهر محمد حسن الفحام (ت 1400هـ).

 اشتهرَ الشيخ الشريف بعذوبةِ تلاوتِه، وفخامةِ أدائه، ورَخَامة صوتِه، وكان يُشبه إلى حدٍّ كبير صوتَ غِرّيدِ مصرَ، الشيخ الكبير مُحمَّد رفعت –رحمه الله-، وله مَع الشيخ رفعت قَصص، مِنها: أنه لمَّا علمَ الشيخ رفعت بحالِ الشريف؛ استمعَ لتلاوته عبرَ أثير إذاعة القدس –وقتذاك- وأُعجبَ به أيَّما إعجاب؛ ثمَّ دارت الأيام فَزَارَ شقيق الفقيدَ، الشيخَ رفعت؛ فدبَّجَ له رسالةً تَقْطُرُ أدبًا وإجلالاً، واعترافًا بفضلِ مُقرئ المسجد الأقصى، وممَّا قالَ فيها: «امَّا عن تلاوتكم القرآنَ الكريم، ومُحاكاتي؛ فهوَ تشريفٌ لي! وقد راقني سلامةُ الموهبة الربانيَّة حينَ استمعتُ إليكم مِن الإذاعة الفلسطينيَّة؛ فكنتَ صورةً صادقةً للترتيل الأصيلِ غير المُتكلَّف، وأَخْبرتُ أخاكم أنني أستمعُ إلى محمَّد رفعت الثاني مِن فلسطين!، أدعو اللهَ -يا ولدي- أن يُسددَ خُطاكَ، ويُحققَ مُناكَ»، وقد رفعَ الله ذِكرهُ وأعلى قَدْره؛ ولا عجب! فكذا هم أهل القرآن: أهل الله وخاصَّته. 

أُولُو الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى ** حُلاَهُمْ بِهَا جَاءَ القُرَانُ مُفَصَّلاَ 

وفي سنةِ (1371هـ) نَشرت صحيفةُ المصريّ مقالًا بعُنوان: (صوتُ الشيخ محمد رفعت يُبعثُ من جديد!) أشادَت بعَلَمِيَّةِ مقرئ المسجد الأقصى، وعُلوِّ كعبه، ورفيعِ تلاوتِه، وحُسنِ أدائه، مُستحثَّةً –على لِسان أهلِ محافظة السُّوَيس- الإذاعةَ المصريَّة بإذاعةِ تلاوتِه، وبثِّها. 

ولا جَرَم أن يُنسِّبَ المؤتمر الإسلاميّ -الذي انقعدَ بمدينةِ جُدَّة قبلَ سنواتٍ- تسجيل مُصحفٍ كاملٍ بصوتِ الشيخ الشريف؛ كي يَعْبَقُ صداه أرجاءَ العالم الإسلاميّ. 

قَضَى المغفور له –بإذن الله- حياتَه في نشرِ العلم، وتعليم القرآن؛ ابتدأها مُعلمًا للعربية وعلوم القرآن في مدارس الخليل، وأشهرها مدرسة أسامة بن مُنقذ، وظلَّ فيها عُقودًا باذلاً مِعطاءً، ثم مقرئًا في إذاعة القدسِ الفلسطينية، ثمَّ اختير مقرئًا ومُعلّمًا للقرآن الكريم في المسجد الأقصى المُبارك، بَدءًا من العام (1966م)، وكذا أستاذًا للقرآن الكريم والتجويد في كلية الشريعة بجامعة الخليل منذ إنشائها سنةَ (1974م)، فضلاً عن الإقراء في المسجد الإبراهيمي بالخليل، وأخيرًا إمامًا لجموع المُصلينَ في مسجد الملك عبدالله المؤسس بعمّانَ البلقاء –محلّ إقامته-؛ فصارَ بنفسِه مدرسةً قرآنيَّةً شامخة، وظلَّ يُعلمُ ويُربّي، ويُمتعُ العالمَ بصدى صوتِه الشجيّ، وترتيله النَّديّ إلى أن اخترمته منيَّتُه يومَ الاثنين، 25 ذو الحجة 1437هـ. 

لِــذَاكَ كَــانَ حَـامِـلُو الْـقُـرآنِ ** أَشْـرَافَ الاُمَّــةِ أُولِـي الإحْـسَـانِ 

وَإنَّـهُـمْ فِــي الـنَّـاسِ أَهْـــلُ اللهِ ** وَإنَّ رَبَّــنَــا بِــهِــمْ يُـبَـاهِــي 

وَقَـالَ فِـي الْقُـرآنِ عَنْـهُـمْ وَكَـفَـى** بِـأنَّـهُ أوْرَثَــهُ مَـــنِ اصْـطَـفَـى 

ويجدرُ الإشارة إلى أنَّ معالي شيخَنا د. يوسف بن جمعة سلامة –سلَّمه الله- كتبَ ترجمةً حافلةً للشيخ الشريف في جُزءٍ لطيف: «قُرَّاء مِن أرضِ الإسراء؛ الشيخ محمد رشاد الشريف مقرئ المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي»، واحتفى به في حفلٍ مهيبٍ أقامَه في حياته، وشرُفتُ بحضورِه!. 

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهمْ ** بعدَ الممات جمال الكُتْبِ والسيرِ. 

والحمدُ لله ربِّ العالمين.