قال الإنسان وقال الحيوان

 

 

نحن نعلم أن عدداً من حملة الأقلام قد صنعت رؤوسهم خارج هذه البلاد، وأن تصورهم لكثير من الحقائق وحكمهم في كثير من القضايا لا صلة له بتراثنا ولا ارتباط له برسالتنا، وأن آخر ما يكترثون له أو يهتمون به هو الإسلام وحاضره ومستقبله، وإن كانت أسماؤهم إسلامية .

 

وكنت أحسب أن معركة المصير بيننا وبين بنى إسرائيل ستكرههم على مراجعة أنفسهم وتصحيح أخطائهم، ولكنني كنت واهماً .

لقد استيقظ بنو إسرائيل وهاجت في دمائهم غطرسة الماضي، وانحرافات التدين ولوثات التعصب، وهجموا على بلادنا يبغون محو أمة وحضارة، وفي أيديهم كل ما استحدث العلم من أدوات الفتك !

وفي ملاقاة هذا العدوان تقرأ لكاتب روايات مصري إنه مسرور من الجيل الحاضر لأنه يحسن الرقص والغناء !

قبحك الله من كاتب مكفوف البصيرة !

 

وفي هذا الاتجاه الضرير ينشر كاتب آخر مقالات مسهبة عن “ الشخصية المصرية “ يمهد فيها طريق الشهوة ويرسم لها الأهداف الوضيعة .

وتستغرب وأنت تقرأ في صحيفة الأهرام مقالاته، في أي عصر يعيش هذا الكاتب، ولأي جيل يكتب ؟

نعم لقد ذهب “ توفيق الحكيم “ إلى باريس لا ليسأل: كيف دخل الفرنسيون النادي الذري ؟ ولا ليبحث كيف يحاول جواسيس الصهيونية سرقة أسرار طائرات “ الميراج “ ؟ ولا ليحقق كيف أقامت فرنسا قوة ثالثة تريد أن تضارع جبابرة الأرض ؟ لا .. إن شيئاً من ذلك لا يعنيه .

 

إنه ذهب ليزيد القراء العرب فهماً في الأمور الجنسية، وليمد حريق الشهوات بوقود جديد يأتي على الأخضر واليابس ..

ذكر لنا الكاتب الجاد الناضج كيف أن زوجين لم يحسنا الوقاع ! وكيف أن طبيباً عالجهما حتى أحسناه ! وكيف شاهد مع الجمهور الفرنسي على - شاشة المسرح - : التطبيق العملي من الزوجين لما سمعاه وعرفاه من الطبيب، فظهرا عاريين يمارسان هذه العلاقة في أتم وأكمل وجوهها “ !

 

ويمضى كاتب الأهرام الوقور في عرض ما راقه من صور فرنسية فيقول: “ صادقت في الحى “ سينما “ أخرى تعرض قصة عنوانها “ الزواج الجماعي “ .. (جماعة من الأزواج الشباب اتفقوا بينهم على أن يعيشوا في حياة مشتركة وأن يتقاسموا بينهم كل شيء وأن يناموا في حجرة واحدة، ونساؤهم مشاع لمن شاء منهم، للزوج أن يعاشر من تروق له من زوجات زملائه، وللزوجة أن تختار ما تريد من أزواج زميلاتها، كل ذلك بالرضا التام من الجميع، وكأن الأمر رغيف خبز تتناوله الأيدي والأفواه .. ثم شاهدنا هذه العلاقات الجنسية تتم أمامنا بكل تفصيلاتها التي تخدش الحياء .. ) الخ .

 

ونترك صورة هذا القطيع من الفتيات والفتيان المتصالح على الزنا الجماعي أو على الفسوق القذر .. لنترك هذا القطيع في جوه المنتن لنقرأ كاتب الأهرام الفيلسوف - ! - وهو يقرر رأيه في هذا الموضوع .. قال: (جعلت أفكر في الأمر مستعرضاً ما سبق من حضارات كبرى فوجدت بعض التشابه . إن سمة الحضارة في كل عصر هي البحث عن الحقيقة، ولا حياء في البحث عن الحقيقة، خصوصاً ما يتعلق بالإنسان وأسباب وجوده المادي والروحي، فكانت حضارة مصر القديمة والهند ترسم وتنحت في المعابد بعض الأعضاء التناسلية رمزاً للحياة .. بل إن كتب الأدب العربي القديم لأمثال الجاحظ وابن عبد ربه كانت تتحدث عن الجنس كما تتحدث عن الطعام، وأكثر هذه الكتب لا يخلو من باب للطعام وباب للباه، وما كان أحد وقتئذ يرى في ذلك بأساً ولا حرجاً، ولكن يظهر أنه عندما تأخذ الحضارات في الانحطاط تكثر المحظورات، وتسدل البراقع على كثير من الموضوعات، إلى أن تمتد إلى روح المعرفة وعادة البحث فتصيبها بالشلل وبهذا يقتل العلم وتخسر الحضارة) .

 

هذا هو فكر كاتب الأهرام الكبير ودرسه لتاريخ الحضارات السابقة واللاحقة ..

وظاهر من أسلوب الكاتب أنه لا يدري شيئاً عن قضايا الحلال والحرام، ولا عن شرائع السماء في السلوك الخاص والعام، ولا عن الطور العصيب الذى يمر به تاريخ العرب، بل سنرى أنه لا يدري عن تاريخ الحضارات البشرية إلا هذه الأجزاء المبتورة عن التماثيل المقامة لأعضاء التناسل، واقتران الطعام بالباه في كتب الأدب العربي القديم !!

 

ومع هذا التطور المزري فهو كاتب كبير يملك حق التوجيه للأجيال الجديدة من أعلى المنابر .

 

إن علماء الدين ما نادوا في بلادنا يوماً ما بكبت الغريزة الجنسية، ونحن نقدس فطرة الله التب فطر الناس عليها، ونحترم رغبة الذكر والأنثى في لقاء مقنع مشبع، وسبيل ذلك الزواج فحسب ..

 

أما تيسير الزنا وتكثير أسبابه وتمهيد سبله وقبول نتائجه فهو ارتكاس إنساني يصحب الأمم عندما تبدأ شمسها في الغروب .

 

وتاريخ الأمة العربية والإسلامية معروف بأنه لم يعترف بالرهبانية كما لم يعترف بتبرج الجاهلية واستباحة الأعراض على نطاق ضيق أو واسع، فوصف الزنا العام بأنه زواج جماعي كلام قذر، وأي تمهيد لقبوله ـ كما ألمح الكاتب ـ مردود في وجه صاحبه .

 

ثم إن العرب خلال هذا القرن قد حاقت بهم رزايا متلاحقة ثم استطاع عدوهم أن يضع أصابعه على مقاتلهم، وها هو يشد قبضته على خناقهم ليوردهم الحتوف .

 

وصيحة العلم والإيمان التي ارتفعت بيننا الآن هي أمل الحياة، فلحساب من تغري أفواج الشباب بالانحلال والتردي، ويحددها كاتب مسلوخ عن الإيمان والعقل لتنسى ربها وشرفها ويومها وغدها !

 

نحن نعلم أن أوربا ارتقت في العصور الأخيرة ارتقاءً بعيد المدى، لكنه من أكذب الكذب أن يجيء بعض الكتاب المصريين ليزعموا أن سبب ارتقائها هو انسلاخها عن مناهج الفطرة ومقتضيات الأدب .

 

إن أسباب النهوض شيء ومظاهر الانحلال شيء آخر، ولكى نعرف تفاهة كتابنا وانحدارهم الذهني والنفسي ننقل إليك ما كتبه المؤرخ الإنجليزي الكبير (أرنولد توينبى) لتدرك منه حقيقة ما يتعرض له الكيان الأوربي من أخطار .

 

إن الأمراض التي يتعرض لها هذا الكيان المهتز هي هي (الخصائص البراقة) التي يريد نقلها إلى بلادنا كتاب تائهون مثل توفيق الحكيم وغيره من ذوى الأسماء والمناصب !

 

قال توينبي [ نشر المقال بالإنجليزية مجلة الإسلام الباكستانية، وترجمته إلى العربية مجلة رسالة الإسلام العراقية التي تصدر عن كلية أصول الدين ببغداد، والمقال طويل نقلنا منه نبذاً ] تحت عنوان درس من التاريخ للإنسان المعاصر:

( لقد فشلت جميع جهودنا لحل مشكلاتنا بوسائل مادية بحتة، وأصبحت مشروعاتنا الجريئة موضع سخرية ! إننا ندَّعي أننا خطونا خطوات كبيرة في استخدام الآلات، وتوفير الأيدي العاملة، ولكن إحدى النتائج الغريبة لهذا التقدم تحميل المرأة فوق طاقتها من العمل، وهذا ما لم نشهده من قبل، فالزوجات في أمريكا لا يستطعن أن ينصرفن إلى أعمال البيت كما يجب ..

 

(إن امرأة اليوم لها عملان: العمل الأول من حيث هي أم وزوجة، والثاني من حيث هي عاملة في الإدارات والمصانع، وقد كانت المرأة الإنجليزية تقوم بهذا العمل الثنائي فلم نؤمل الخير من وراء عملها المرهق، إذ أثبت التاريخ أن عصور الانحطاط هي تلك العصور التي تركت فيها المرأة بيتها ..

(في القرن الخامس قبل الميلاد حين وصلت اليونان إلى أوج حضارتها كانت المرأة منصرفة إلى عملها في البيت، وبعد مجيء الإسكندر الكبير وسقوط دولة اليونان كانت هناك حركة تسوية شبيهة بالحركة التي نشهدها اليوم ! ..

(لقد نسوا الله (والكلام لتوينبي) حين وضعوا حلولاً لمعالجة الأمراض الاجتماعية انتهت بالأمم إلى علل مستعصية ومآس كبيرة ..

(إن عصر الآلة أوجد لنا نقصاً لم يسبق له مثيل، نقصاً في المساكن مثلاً، وخلق لنا فترات متناوبة من البطالة، ونقصاً في الأيدي العاملة).

 

ويقول توينبي: (لقد مشى الإنسان قديماً في الطريق الذى مشى فيه اليوم، ووضع القواعد نفسها لتنظيم السير والمرور، والفرق الوحيد أن الأوائل استخدموا عربات الخيل بدل السيارات، وأن مخالفة تعليمات المرور لم تكن مروعة ومميتة كما هي اليوم ..

إن التقدم الفني والصناعي ليس بحد ذاته دليل الحكمة أو ضمان البقاء، وإن الحضارات التي انبهرت وقنعت بمهارتها الآلية إنما كانت تخطو خطوة نحو الانتحار ! ..

إن أحد مصادر الخطر على عصرنا الحاضر هو أننا تربينا على عبادة الوطن وعبادة الراية وعبادة التاريخ الماضي ـ العنصري ـ ويجب على الإنسان أن يعبد الله وحده وأن يتمسك بالقانون الإلهي في تكامل الفرد والمجتمع، وإن فشلنا لمحتم عندما نحيد عنه) هكذا يقول توينبي .

 

ومن عباراته في هذا المقال: (لقد أقنعتني دراستي لإحدى وعشرين حضارة أن الثقافة الخلاقة هي فقط الثقافة الصحيحة، تلك التي تتمكن من حل المشكلات المستجدة في الظروف المختلفة ..

إن التقدم العلمي الحديث قد حل مشكلاتنا الصناعية بجدارة ..

ولكن مشكلات العصر ليست من ذلك النوع الذى يحل في المختبرات، إنها مشكلات معنوية، ولا علاقة للعلم بالقضايا المعنوية) .

يعنى: أن الأمر في هذه الأحوال لمنطق الإيمان، ولذلك يقول:

 

(قد يبدو هذا غريباً ولكن المدنيات الكبيرة بلغت نضجها وضمنت تكاملها بالتغيير الروحي) !

نقول: إن المؤرخ الأوربي الغيور على حضارته يلمح أسباب اعتلالها ويصف الدواء بحذق، أما الصحافي المصري فهو يذهب إلى مسرح عابث فيصفه بإعجاب، ويتذكر أن مصر والهند كانتا قديماً تقيم التماثيل لأعضاء التناسل !!

أي فكر هذا ؟ وكيف تتداعى المعاني المثيرة على هذا النحو في ذهن أديب لتنشرها صحيفة كبرى ؟

 

ومتى ؟ في أيام استعداد العرب لجولة أخرى مع بنى إسرائيل يحررون بها أرضهم ويدركون ثأرهم !

 

ما ننتظر غير هذا من أقلام شبَّت على العبث وشاخت فيه .. بيد أننا نلفت الشباب المسلم إلى حقائق قد تغيب عن ذهنه في غمرة الأحداث .

 

إن أعيننا ترمق قوماً يكرهون الإسلام من أعماق قلوبهم ويتحينون الفرص للتنفيس عن ضغنهم بوسيلة أو أخرى .

 

وهؤلاء يغضبون عندما ننتسب ـ مجرد انتساب ـ إلى الإسلام ولا يتحركون أية حركة إذا تعصب المتعصبون لأية نحلة أخرى على ظهر الأرض .

 

على الشباب المسلم أن يرمق هؤلاء بحذر وأن يدرك ما في خباياهم من سواد ..

 

في يوم ما جاء إلى صحن الأزهر وفد يجمع بين جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار ولويس عوض وتوفيق الحكيم وآخرين لا أذكرهم ..

كان فيلسوف الوجودية وعشيقته مدعوين لزيارة القاهرة وإلقاء محاضرات بها ..

 

من الذى استقدم إلى عاصمة العروبة والإسلام هذا الفرنسي الكفور ليلقى فيها بذور انحلاله ؟!

 

لا يهم أن نعرف الأشخاص، وإنما المهم أن نحذر النيات المبيتة وأن نتقى التوجيهات المسمومة وأن نتبين الدائرة الواسعة التي يعمل فيها عدونا، لهدم عقائدنا ودك حصوننا فإن هؤلاء الأعداء كثيرون [وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ] {محمد:30}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة لواء الإسلام العدد الثاني عشر من السنة 25، شعبان 1391 ، اكتوبر 1971

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين