نظرات في القاعدة التكفيرية الثالثة: كفر من جعل بينه وبين الله تعالى وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة -7-

 

 

هذه بعض البحوث المنتقاة من كتاب فضيلة الشيخ محمد أمين محمد الحامد " الميزان" الذي ناقش فيه بعض نواقض الإيمان في كتابه الذي نشرناه كاملا على موقعرابطة العلماء السوريين. وهذا رابطه:

 http://islamsyria.com/site/show_library/1031%20

ونحب أن نذكر القراء بأن ما ينشر في هذا الموقع لا يعبر دائما عن موقف علماء الرابطة من كل ما ينشر ، بل هو اجتهاد شخصي ينسب لقائله .

إن الناس في الدار الآخرة عندما يشتد عليهم الكرب، يذهبون إلى الأنبياء عليهم السلام يطلبون منهم الشفاعة عند رب العالمين ، من أجل إن يأذن الله تعالى بإجراء الحساب، والغريب هنا أن جميع الأنبياء لا ينهون الناس عن هذا الفعل ، ولا يقولون لهم: هذا شرك عظيم ، وأنتم الآن في حال لا يفرجه عنكم إلا رب العالمين ، فأين تذهبون؟!!

ولا يقول لهم أي نبي: لماذا تستغيثون بي استغيثوا بربكم ، لأنهم في ذلك الموقف ينادونهم: يا آدم ، يا إبراهيم ، يا موسى ... وهذه استغاثة بغير الله واضحة، والغريب أن كل نبي يقول : اذهبوا إلى غيري أي كان يأمرهم بالتوسل.

فإذا كان التوسل شركا فكيف يفعله كل الناس في ذلك المكان، وكيف يوافقهم الأنبياء وكيف يأمرونهم به، بل إن الإنسان في ذلك اليوم لا يستطيع أن يأتي بأي عصيان فضلا عن الشرك. وهذا يعني أن التوسل ليس شركا، وإذا كان كذلك فقد انحلت المشكلة .

القاعدة هي الأمن من الشرك:

بل نستطيع أن نستخلص قاعدة هنا في موضوع التوسل والاستغاثة ؛ أنهما جائزتان بشرط واحد، وهو الأمن من الشرك، لأن الناس في الدار الآخرة قد أمنو الشرك، فقد أصبح الإيمان عندهم شهوديا عيانيا، ولم يعد غيبيا ظنياً، وهذا هو الإيمان الكامل والمعرفة الكاملة، ولذلك أصبح التوسل والاستغاثة جائزة ،لأنها خالصة عن الشرك، مطمئنة بالإيمان.

إذن فالقاعدة هنا أنه عندما يكون الاعتقاد أن المتوسل به لا يملك من الأمر شيئا ، وأن الأمر كله لله، جاز التوسل، أما إذا كان الاعتقاد أن المتوسل به عنده قدرة ذاتية أي مستقلة عن الله يستطيع بها فعل شيء ، فإن التوسل هنا غير جائز، لأنه سؤال لغير الله، وهذا هو الشرك بعينه.

ويستدعي هذا الموضوع مناقشة قول شائع يقول : إن الاستغاثة بالمخلوق فيما لايقدر عليه إلا الخالق عز وجل هو شرك أكبر، أما الاستغاثة به بشيء مما يقدر عليه المخلوق فهو أمر جائز.

ولعل جواب هذا القول قد مضى الآن، وهو الجواز بشرط واحد، وهو عند الأمن من الشرك، لأن أهم شيء لايقدر عليه المخلوق هو المغفرة ودخول الجنة ، وقد رأينا أن الشفاعة لا تكون إلا في هذين الأمرين في الدار الآخرة.

ومن هنا كان التوسل لشفاء مريض أو قضاء حاجة من حاجات الدنيا، جائز من باب أولى، إذا كان المتوسل مقتنعاً بأن الأمر أمره وأن العطاء عطاؤه سبحانه وتعالى، وأن هذه الاستغاثة ماهي إلا شفاعة من هذا العبد الصالح ، فإذا لم توجد هذه القناعة فإن ذلك حرام .

التوسل من الشفاعة :

والحقيقة أن كل من لم يؤمن بجواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصف كل من أجاز التوسل بأنه يعبد غير الله تعالى، ويسأل غيره ويدعو غيره ويتوكل عليه، وهذه الفكرة فيها جهل فاضح وخلط بين الجائز وغيره، وهي فكرة جدلية مليئة بالمغالطات، وهي كذلك غير دقيقة ولا موضوعية، وفيها تعميم ، لأن قائلها يخلط بين أمور جائزة مع غيرها مما هو محظور، وهذا أمر ظاهر من هذا النص – أقصد به ما هو مذكور بورقة المكفرات العشرة - فهو يذكر الشفاعة ويجعلها من هذا الشرك ، الذي يعتمد على وجود وسائط بين الله تعالى وخلقه.

مع أن الشفاعة أجمع علماء المسلمون على صحتها، وهي مذكورة في القرآن الكريم قال تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) سورة البقرة آية 255 ، فهذا يدل على ضحالة هذا الفكر وما فيه من الجهالات المخجلة .

ومعلوم أن طلب التوسل ما هو في مضمونه إلا طلب الشفاعة ، فإذا كانت الشفاعة جائزة كان التوسل كذلك لأنهما وجهان لعملة واحدة.

والشفاعة عند الله تعالى لها مصادر عديدة، وهي ليست فقط لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي لجميع الأنبياء والمرسلين وكثير من الملائكة والصالحين، فبعض الشافعين من الصالحين يشفعون لما يساوي قبيلة مضر، والصالحون يشفعون لذويهم ولقرابتهم، والشهيد يشفع لسبعين من أهل بيته. قال تعالى: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى? ) سورة النجم آية 26 .وقال ايضاً (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) سورة غافر آية 7 .

فالتوسل هو طلب الوسيلة، والوسيلة هي الواسطة التي تقدم المساعدة من طرف إلى طرف، فهي تشبه الشفاعة من كل وجه، فهذا الاستغفار للمؤمنين من هؤلاء الملائكة الذين يحملون العرش هو من التوسل، لأنهم يقدمون شفاعة أو مساعدة مجانية للمؤمنين، وهي طلبهم من الله تعالى أن يرحم هؤلاء المؤمنين ، بالحصول على المغفرة والرضوان ودخول الجنة .

فإذا كان التوسل من الشفاعة، وكانت الشفاعة جائزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولغيره من الصالحين، لذلك كان حكم التوسل مثل ذلك قياساً على الشفاعة ، وهذا من المفروض أن لا يوجد فرق في هذا بين الموت والحياة ، لأن الشفاعة أو الوسيلة لأي عبد ، ليست هي عن طريق تفعيل ذاتي، لأن العبد لا يملك تفعيلها لأقرب الناس إليه، حتى لو كان عمه أو أباه أو ابنه أو زوجته، وجميع هؤلاء الأصناف وردت نصوص قرآنية فيهم ما عدا الزوجه .

وإذا كان كذلك كان سؤال الشفاعة أو التوسل من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، كسؤاله له في حياته، لأن السؤال هنا في الحقيقة هو لله تعالى بجاه هذا الرسول الكريم ، فإذا كان ذلك جائزاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان جائزاً لغيره من الصالحين من باب القياس على الشفاعة .

وهنا لا يصح القول : بأن من يفعل ذلك كان يعبد غير الله ويدعو غير الله أو يتوكل على غير الله تعالى . لأن كل من يفعل ذلك يفرق بين الخالق والمخلوق ، ويميز الله تعالى عن سائر خلقه بقدرته على الفعل من عطاء ومنع ، وأن غيره لا يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك إلا عندما يقبل الله تعالى شفاعته.

ولذلك فإن هذا الذي يعتمد على شيخه أن ينجيه في الدار الآخرة ، هو يظن في الحقيقة أن شيخه من الصالحين، وأن له شفاعة مقبولة عن الله تعالى بحسب غالب ظنه، ولذلك فهو يرى أنه لو كان شيخه على خلاف ذلك، بأن كان فاسقاً وهو لا يعلم عنه ذلك، فإن هذا الإنسان يعتقد أن هذا الشيخ لن يشفع له ولن يستطيع أن ينجيه، وهذا يدل على سلامة إيمانه من أية شرك ، ويدل على أنه لا يتوكل على هذا الشيخ، بل إن توكله الحقيقي هو على الله تعالى وليس على هذا الشيخ الفاسق.

ولذلك فإن هذا الناقض الثاني فيه كثير من الجهل والخلط والبعد عن التدقيق ، وهو في غالبيته أشبه بالشتائم والسباب وإلقاء التهم جزافاً على الآخرين ، وإخراج الناس من الدين بالجملة ، مع ما في ذلك من تصديع للمجتمع وتفريق لوحدة صفه، ونشر للعداوة والبغضاء والمصادمات ، التي تبدد الطاقات وتؤدي إلى الدمار والوبار والهلاك.

انظر الحلقة السادسة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين