من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: إدراكه لحده

قالوا: بيِّن لنا سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قلت: إن بيان سيرته تضيق عنه المجلدات، فهو أفضل المرسلين، وخاتم النبيين، ومتلقي الكتاب المبين، أوتي عقلا تاما، ورأيا صائبا، وقلبا تقيا، وعملا صالحا، وعبودية كاملة، وهو من المصطفين الأخيار، والمجتبين الأبرار، وأولي الأيدي والأبصار، وهو عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وهو دعاء إبراهيم عليه السلام بعثه الله تاليا لآياته معلِّما للأحكام والحِكَم مزكيا مطهرا، وبشارة موسى وعيسى، وقدَّمه آدم دليلا على صدق خلافته.

قالوا: قد عرفنا ما قلت غير منكرين منه شيئا إلا قولتك الأخيرة إذ جعلته دليلا على صدق خلافة آدم، وهي من جنس مقالات أصحاب المواليد: "كنت نبيا وآدم بين الطين والماء"، و"لولاك لما خلقت الأفلاك"، وقراءة آدم اسم محمد على عرش الرحمن، قلت: أعوذ بالله من أن أنعته بحديث مختلق أو خبر موضوع أو أثر منكر، أو أثني عليه بأقاويل أهل البدع المغالين الجاهلين الضالين، وإنه لفي غنى عن هذه الترهات والأباطيل مترفعا عنها متعاليا، قالوا: ففسِّر لنا معنى قولك. قلت: سأفعل في مقال مفرد إن شاء الله تعالى.

قالوا: دعنا من المجلدات في عرض سيرته مقتصرا على إبراز معالمها المشرقة في مقال، قلت: يحتاج ذلك إلى مقالات، قالوا: رضينا، فأفرد مقالا لكل درس من دروس سيرته المباركة، قلت: تهجم على فكري متداعية متزاحمة، فلا أدري بأيها أبدأ؟ قالوا: ابدأ بما شئت، قلت: أخشى أن تتهموني بتقديم ما حقه التأخير وتأخير ما حقه التقديم، قالوا: قد أعفيناك من ذلك فلا يشغلنَّ من بالك، وأنت متبع للمذهب الحنفي، ويرى الأصوليون من أهل مذهبك أن الواو لمطلق الجمع من دون ترتيب، فإذا رسمت لنا صورا من سيرته العطرة من دون ترتيب لم نرمِك بشيء وأنحينا اللائمة على مذهبك.

قلت: من أبلغ العظات في أخلاقه: إدراكه لحده غير منكر له ولا خارج عنه، ولا ساخط عليه أو منزعج منه انزعاجا، وهذا وصف شبه معدوم بين الكبراء والعظماء، بل وبين عوام الناس وجماهيرهم، وسرعان ما يتخطى بنو آدم حدودهم ويجاوزون أقدارهم، باغين على قيودهم ثائرين على الخطوط المرسومة لهم، فيستكبرون ويتجبرون ويظلمون ويضطهدون، يتعدون حدودهم ملوكا وحكاما ووأمراء، وآباء وأزواجا وأولياء، وإخوانا وأحبة وأصدقاء، سالبين غيرهم حرياتهم، باخسين حقوقهم، نائلين من حرماتهم، غاصبين أعراضهم، وساطين على ذممهم.

قالوا: أوضح لنا قصدك بمثال، قلت: أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فَضَرَبَتِ التي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.

قلت: حدث ذلك في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو بين زوَّاره، وسألها أن ترد صحفة سالمة مكان المكسورة حكما عادلا وقضاء مقسطا، وذلك ما نرجو من عامة الحكام والقضاة، فكيف يتغاضى عنه من هو أوفى الناس عدلا وقسطا، ولكن أعظم ما في القصة أسرا للأنظار واستمالة للقلوب ووقعا في النفوس هو إدراكه لحده ووقوفه عنده، كسرت عائشة القصعة المليئة بالطعام وهو بين أصحابه، فلم يشعر بهوان أو صغار متحرجا من فعلها ومتضايقا من الموقف، ولم يغضب عليها ولا صرخ في وجهها، غير ساب ولا مجدع، بل بحث لها عن عذر مبرئا لساحتها ذابا عنها، وقال لضيوفه: "غارت أمكم"، كلمة قصيرة جامعة بين لفت النظر إلى عذرها وبين حمل الناس على غض البصر عن فعلها في تبجيل لها وتوقير إذ هي أمهم، ومن يأثر السوء عن أمه؟ ولم يأمر عائشة بجمع الفلق والطعام، ولا كلَّف غيرها به، بل تولى الجمع بنفسه الشريفة، ولو كان أحد مكانه وكسرت زوجتُه الإناء أمام ضيوفه لثار غضبا عاديا طوره باغيا على المعروف، ولنسي حقها في جهل فاحش وغي مبين.

قالوا: ائتنا بمثال آخر، قلت: أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها، يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعته، قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه.

قلت: كانت بريرة أمة، فأعتقتها عائشة رضي الله عنها، وخُيِّرت بين البقاء مع زوجها ومفارقته، فعزمت أن تفارقه غير راغبة فيه، وزوجها محب لها شغوف بها قلبه، يجري وراءها في طرقات المدينة متضرعا إليها أن لا تفارقه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رق له وشفع له، والشفاعة حق من الحقوق وسنة ينتهجها ذوو الكرم والشرف، استعمل النبي صلى الله عليه وسلم حقه في الشفاعة، ولكن لم يمنعها من حقها في الاختيار، ولما لم تقبل شفاعته وبانت من زوجها نفذ خيارها غير ساخط عليها ولا غضبان.

قالوا: ائتنا بمثال ثالث، قلت: حياته حافلة بالأمثلة، وحسبنا ما ذكرت لكم ولا تطوِّلوا المقال بكثرة الأمثلة، قالوا: هذا آخر سؤالنا، فإذا أجبته فقد بلغت من لدنا عذرا، قلت: لما أنزل الله تعالى براءة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في قصة الإفك قالت لها أمها: قومي إليه (أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله.

سألت أم رومان بنتها أن تقوم إلى زوجها تشكره لما أنزل الله براءتها في كتابه على لسانه صلى الله عليه وسلم وبشَّرها بها، إنها علمت أن الله تعالى هو الذي برَّأها إذ قذف القاذفون وسكت الساكتون لم يشاطروا أحزانها ولا استكشفوا همومها، فعرفت نعمة ربها عليها وفضله الجسيم متسارعة إلى السجود له حمدا وشكرا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في مجلسه ذلك متهلل وجهه بالبشرى، ولعله أولى من تقوم له عائشة إذ لم يكن فرحه بالوحي أقل من فرحها وفرح أبويها، ولكنه لم يبد أسى أو اكتئابا بقولها "والله لا أقوم إليه"، بل رضي منها أن لا تحمد إلا الله، وكيف لا يرضى وهو المرسل إلى الناس يصلهم بربهم ويقربهم إليه.

قالوا: لماذا تركز على وعي الحد كل هذا التركيز؟ قلت: إن الحدود التي حدها الله عز وجل للناس هي مجالاتهم التي منحها لهم، لو لم يكن هناك حد لما كان هناك مجال للعمل، فللملوك والأمراء حدودهم، وللرعايا حدودهم، وللأغنياء والفقراء حدودهم، وللآباء والأولاد حدودهم، وللرجال وأزواجهم حدودهم، فإذا تقيدوا بها استعدوا للقيام بوظائفهم وأداء واجباتهم، وإذا تعدوها بطرا واغترارا انخلعوا من وظائفهم وأعمالهم مطرودين متبعين أهواءهم خاسرين، وتعدوا على غيرهم مخالطي الشرور على سخط ربهم وغضبه متجاسرين. 

قالوا: يا ليتنا نحن المسلمين عقلنا هذا الجانب من سيرته صلى الله عليه وسلم ملتزمين بجدودنا متقيدين بقيودنا، وإذًا لعاش الرجال والنساء، والبيوت والأسر، والمدارس والمعاهد التعليمية، والمجتمعات والملتقيات، والمؤسسات والجمعيات، والحكومات والنظم في أمن وسلام. قلت: صحيح لو كان ذاك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين