حدث في العاشر من المحرم


في العاشر من المحرم من سنة 196 توفي، عن 67 عاماً، الإمام الحافظ محدث العراق وكيع بن الجراح بن مليح الرُّؤَاسي الكوفي، وكان عائداً من الحج إلى الكوفة عندما أدركته الوفاة في فَيْد جنوبي حائل في السعودية اليوم.
ولد وكيع في الكوفة سنة 129، ووالده الجراح بن مليح من بليدة أستوا قرب نيسابور، في مقاطعة خراسان في شمالي شرقي إيران، وكان والده من كبار موظفي الدولة العباسية تولى إدارة دار سك العملة بالرَيِّ، وهي اليوم طهران، ثم تولى بيت المال بالكوفة، وكانت له رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله هيبة وجلالة، فقال عنه طلبة الحديث: كان عسِرَ الرواية، وتوفي سنة 175. والرؤاسي: نسبة إلى رؤاس: بطن من قيس عيلان.
توجه وكيع لطلب العلم ورواية الحديث وهو في سن مبكرة، ومن أول من درس عليهم الإمام الأعشى، سليمان بن مهران المتوفى سنة 148، فقد درس عليه عدة سنوات، وذكر قصته عندما ذهب إليه أول مرة فقال: أتيت الأعمش، فقلت: حدِثْني. قال: ما اسمك؟ قلت: وكيع. قال: اسم نبيل، ما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رؤاس، قال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قلت: ذاك أبي. وكان على بيت المال، قال لي: اذهب، فجئني بعطائي، وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث.
فجئت إلى أبي، فأخبرته، قال: خذ نصف العطاء، واذهب، فإذا حدثك بالخمسة، فخذ النصف الآخر حتى تكون عشرة، فأتيته بنصف عطائه، فوضعه في كفه، وقال: هكذا؟ ثم سكت، فقلت: حدثني، فأملي علي حديثين، فقلت: وعدتني بخمسة. قال: فأين الدراهم كلها؟ أحسَبُ أن أباك أمرك بهذا، ولم يدْرِ أن الأعمش مدرب، قد شهد الوقائع!؟ اذهب فجئني بتمامه، فجئته، فحدثني بخمسة، فكان إذا كان كل شهر، جئته بعطائه، فحدثني بخمسة أحاديث.
وكان عصر وكيع عصر جهابذة كبار من أعلام الإسلام وأئمة الدين مثل أبي حنيفة، النعمان بن ثابت، المتوفى سنة 150، والأوزاعي، عبد الرحمن بن عمرو المتوفى سنة 157، وسفيان بن سعيد الثوري المتوفى سنة 161، ومالك بن أنس المتوفى سنة 179، وعبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198، ويحيى بن معين المتوفى سنة 233، وعلي بن المديني المتوفى سنة 234، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة 241.
وسمع وكيع ممن تقدموه من الأئمة مثل الأوزاعي وأبي حنيفة وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله وغيرهم من أساطين المحدثين، كما سمع من القارئ حمزة الزيات، حمزة بن حبيب الكوفي، المتوفى سنة 156، وأحد أصحاب القراءات السبع.
ووهب الله وكيعاً ذاكرة عجيبة، كانت محل ثناء كل من التقى به من أساتذته وأقرانه، وكان أستاذه سفيان الثوري رحمه الله يدعوه وهو غلام فيقول: يا رؤاسي تعال، أي شئ سمعت؟ فيقول: حدثني فلان بكذا، وسفيان يتبسم، ويتعجب من حفظه. وقال يحيى بن معين: سمعت وكيعا يقول: ما كتبت عن الثوري حديثاً قط، كنت أحفظ، فإذا رجعت إلى المنزل، كتبتها.
قال محمد بن عبد الله بن عمار: سمعته يقول: ما نظرت في كتاب منذ خمس عشرة سنة إلا في صحيفة يوما، فقلت له: عدَّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث غلطت فيها! قال: وحدثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمس مئة؛ أربعة أحاديث ليست بكثيرة في ذلك. قال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع.
وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب، ويذاكر بالفقه فيحسن، مع خشوع وورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد. وسأل صالحُ بن أحمد بن حنبل أباه الإمامَ أحمد عن وكيع فأجابه: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع، ولا أشبه من أهل النسك منه، ولم يختلط بالسلطان. وروى عنه الإمام أحمد في مسنده 1895 حديثاً، وقال يحيى بن معين: والله ما رأيت أحداً يحدِّث لله تعالى غير وكيع بن الجراح، وما رأيت أحداً قط أحفظ منه، ووكيعٌ في زمانه كالأوزاعي في زمانه.
وقال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قام وكيع، فاستند، وحدث بسبع مئة حديث حفظا! قال المحدِّث علي بن خشرم المروزي، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 257: رأيتُ وكيعاً ما رأيت بيده كتاباً قط، إنما هو حفظ، فسألته عن أدوية للحفظ، فقال: إن علمتك الدواء استعملته؟ قلت: إي والله، قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ. ومن هنا جاء البيتان المنسوبان للشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذاك لأن حفظ المرء فضل ... ... وفضل الله لا يعطى لعاصي
وأضف إلى ترك المعاصي الزهد في الدنيا وخلو الذهن من مشاغلها، والعمل بما يقتضيه الحديث، وهو فقه عظيم لحقيقة الدين وتطبيق عملي للتوجيه الذي تحمله الأحاديث، فقد كان وكيع يقول: ما خطرت لي الدنيا منذ أربعين سنة، ولا سمعت حديثاً فنسيته. قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأني لم أسمع شيئاً إلا عملت به.
وجلس وكيع للتحديث وهو في الثالثة والثلاثين، وروى عنه جمع غفير من رواة الحديث ضمَّ كبار المحدثين في زمانه مثل الإمام سفيان الثوري وهو أحد شيوخه، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبي بكرعبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وأمم سواهم، ولما مات سفيان الثوري، جلس وكيع موضعه، وكان سفيان يحترم رأيه، قام وكيع مرةً إلى سفيان الثوري فأنكر عليه قيامه، فقال وكيع: حدثني عن عمرو بن دينار عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم. فسكت سفيان وأخذ بيده فأجلسه إلى جانبه.
وقد ضرب المحدثون إلى وكيع آباط الإبل وقصدوه من أنحاء الدنيا، ولو استعرضنا من أخذ عنه لرأينا انتشار الإسلام وسهولة الحركة بين أقطاره، مما لا نكاد نعرفه اليوم، فقد كان مستمليه من بلخ في شمالي أفغانستان، وهو أبو بكر محمد بن أبان بن وزير، المستملي البلخي، المتوفى سنة 254، وإنما قيل له المستملي لأنه كان يستملي على وكيع رحمه الله، وممن جاء من أفريقية وأخذ عنه الإمام سحنون فقيه المغرب، عبد السلام بن حبيب، قاضي القيروان وصاحب المدونة الفقهية، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 240، رحل إلى المشرق في شبابه سنة 188، فسمع عن جماعة منهم وكيع بن الجراح، وجاء في سنة 179 من الأندلس محمد بن عيسى عبد الواحد بن نُجَيْح المعَافِرِيّ القرطبي، المعروف بالأعشى، فسمع من كبار المحدثين في العراق والمدينة، وعلى رأسهم وكيع بن الجراح، وصار من أتباع المذهب الحنفي، قبل أن يعود إلى الأندلس ويصبح أحد مفتيها، وتوفى فيها رحمه الله سنة 221، وجاء من خراسان إسحاق الكوسج، إسحاق بن منصور المروزي، المولود بعد سنة 170 والمتوفى بنيسابور سنة 251.
وهناك إمام محدث حافظ عُرِف بالوكيعي لأنه رحل إلى وكيع وأكثر عنه الرواية، وهو أبو عبد الرحمن أحمد بن جعفر الوكيعي الضرير البغدادي، المتوفى سنة 215 ببغداد، وكان مثل شيخه أعجوبة في الحفظ، قيل: ما سمع حديثاً قط إلا حفظه.
ولأن وكيع كان محدثاً فقيهاً، وكان يفتي بقول أبي حنيفة، فقد كان يفضل رواية الفقهاء عن رواية بعض المحدثين الذين لا يتمتعون بكثير فقه، قال الحافظ عبد الله بن هاشم الطوسي المتوفى سنة 255: خرج علينا وكيع يوما، فقال: أي الإسنادين أحب إليكم: الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله؟ أو سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش، فإنه أعلى. فقال: بل الثاني، فإنه فقيه، عن فقيه، عن فقيه، عن فقيه، والآخر شيخ عن شيخ، وحديث يتداوله الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ. وعلق الأستاذ المحقق شعيب الأرناؤط رحمه الله مفسراً هذا القول: مراد وكيع أن المحدث الذي يجمع إلى الحفظ والضبط البصرَ بما في الحديث، والتفقه به، والاستنباط منه يكون حديثه أضبط وأصح من المحدث الذي يقتصر على الحفظ وسرد المرويات، وهذا بيـِّنٌ لا خفاء فيه.
وكان وكيع رحمه الله يرى أن المحدث لا يستطيع أن يحيط بكل الروايات، ولذا لا بد له من أن يعلو في الرواية، وأن يتدبج وأن يسفل، قال تلميذه الحافظ المعمَّر علي بن خشرم، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 257: سمعت وكيعا يقول: لا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه.
وكان وكيع كما أسلفنا يجمع بين الفقه والحديث على نحو يرضي المحدثين، ومن فقهه ما ذكره آدم بن سعيد المديني، قال: دخلت على وكيع بن الجراح في الطواف فسألته عن أربعمئة مسألة وحفظت عنه أجوبتها. ومن الطريف أن وكيعاً كان لا يفتي في الحج إلا في مكة المكرمة، وجرت له قصة في ذلك رواها الإمام إبراهيم الحربي، قال: حج وكيع فكان لا يفتي بمنى حتى يرجع إلى مكة، فجاءه رجل إلى منى فقال: يا أبا سفيان بت البارحة بمكة، جئت إلى طواف الزيارة فنمت بمكة، فقال وكيع لرجل بجنبه خراساني: قل له ذلك! قل له! فقال له: إن أبا سفيان لا يفتي بمنى، فقال الرجل: يا أبا سفيان أنا رجل منك وإليك، أفتني! فقال وكيع للرجل الذي بجنبه باللهجة الكوفية: قل له والك، قل له! فقال الرجل: إن أبا سفيان لا يفتي بمنى، فقال المستفتي: هو ذا أقول لك، فإن كان علي دم، فقل لي برأسك نعم، وإن لم يكن علي شيء فقل لي برأسك لا، فقال وكيع للذي بجنبه: قل له والك قل له!، فقال: إن أبا سفيان لا يفتي بمنى.
فانصرف الرجل ثم جاءه بمكة والناس حوله حُلق فقال له: يا أبا سفيان، ما تقول في رجل جاء إلى طواف الزيارة فنام بمكة؟ فعرفه وكيع وقال ادخل ادخل، فدخل إليه، فقال له: هات مسألتك؟ فقال له: جئت إلى طواف الزيارة فنمت بمكة، قال: فأكثرُ الليل أين كنت بمكة أو بمنى؟ قال: بمنى، قال: قم ليس عليك شيء.
وكان وكيع لا يجلس ولايحدث إلا ووجهه إلى القبلة، وكأنه يرى تحديثه من أنواع العبادة التي يستقبل بها وجه الله، وكان مجلسه مجلساً هادئاً لا كلام فيه ولا صخب، سمع مرة كلام أناس من أصحاب الحديث وحركتهم، فقال: يا أصحاب الحديث ما هذه الحركة؟! عليكم بالوقار. وقال المحدث الحافظ أحمد بن سنان الواسطي القطان: كان وكيع يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئا انتعل ودخل، وتشاجر مرة طلبة الحديث أمام وكيع، فلم يحدثهم سبعة أيام فقال: إنما أردت أدبهم. ثم حدَّثهم.
وكان وكيع رحمه الله يهتم كذلك بإصلاح أمور العامة وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، رأى امرأة عند عطار والعطار يكلمها كلاماً فيه ريبة، فقال لإنسان: اذهب إلى ذاك العطار ففرِّق بينهما. كما كان يتعهد الضعفاء بما يسرهم من المباسطة والصلات، قال المحدث الثبت أبو غسان النهدي، مالك بن إسماعيل المتوفى سنة 219: خرجت يوماً وأنا أريد الجمعة فرأيت وكيع بن الجراح في الطريق يمضي إلى الجمعة وليس يأخذ طريق الجادة مختصراً في الأحياء، فبينما هو يمشي إذ رأى شرطياً يمشي يقال له أبو الديك فقال له وكيع: أبو الديك؟ قال: نعم يا أبا سفيان، قال: أين تكون؟ ما نراك؟! قال: يا أبا سفيان نحن ثم مشاغيل في الدار، فقال له وكيع: اذهب إلى أحمد ابني فقل له يعطيك عشرة دراهم.
وكان وكيع يخصص من نهاره أوقاتاً لتعليم العامة أمور دينهم، قال ابنه سفيان بن وكيع: كان أبي يجلس لأصحاب الحديث من بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف، فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المكان الذي يستقي منه السقاؤون ويريحون نواضحهم، فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله، فيقدم إليه إفطاره، وكان يفطر على 10 أرطال من الطعام، ثم تقدم إليه قرابة فيها نحو من عشرة أرطال من نقيع التمر، فيشرب منها ما طاب له على طعامه، ثم يجعلها بين يديه، ثم يقوم فيصلي ورده من الليل، كلما صلى شيئا شرب منها حتى ينفدها، ثم ينام. وكان وكيع يقول: التمتين على المائدة خيرٌ من زيادة لونين، وكمال المائدة كثرة الخبز، والسميذ الأبيض أحلى من الأصفر.
ولا غرو أن يكون وكيع سميناً وهذا طعامه، وكان رحمه الله أسمر اللون ضخم البنية، ولما جاء إلى مكة المكرمة التقى بالفُضيل بن عياض فاستغرب بدانته، وقال له: ما هذا السِمَن، وأنت راهب العراق؟ قال: هذا من فرحي بالإسلام. فأفحمه. وكان وكيع من الزهد أنه لا يسأل عن شيء من طعامه وشرابه، بل يؤتى به إليه، ولا يطلب شيئاً، وكان لا يستعين بأحد، ولا على وضوء، كان إذا أراد ذلك قام هو.
ومن نافلة القول أن يكون وكيع رحمه الله حريصاً على صلاة الجماعة في المسجد، ولكنه كان يؤكد على حضور التكبيرة الأولى ويقول: من لم يدرك التكبيرة الأولى فلا ترجوا خيره. ولعله تعلم هذا من شيخه الأعمش، فقد قال هو عنه: كان الأعمش، قريبا من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى. وكان وكيع إذا ذهب إلى المسجد سار وحده لا يصحبه أحد، فإن جاءه أحد في الطريق يسأله في أمر كان لا يزيد على أن يقول مستنكراً: في الطريق؟! في الطريق؟! على التؤدة.
كان وكيع بن الجراح منكباً على العبادة، يرتاح إلى صلاة النوافل، وكان يقول لتلاميذه: لو علمت أن الصلاة أفضل من الحديث ما حدثتكم. وهو في هذا يقتفي سنة شيخه سفيان الثوري، فقد روى هو عنه قوله: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. وكان وكيع إذا قام في الصلاة، ليس يتحرك منه شئ، لا يزول ولا يميل على رجل دون الأخرى.
قال يحيى بن أكثم: : صحبت وكيعا في الحضر والسفر، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة. وعلق الإمام الذهبي رحمه الله، وهو خير ناقد، على هذه الحكاية، فقال: صح نهيه عليه السلام عن صوم الدهر، وصح أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، والدين يسر، ومتابعة السنة أولى، فرضي الله عن وكيع، وأين مثل وكيع؟!
قال يحيى ين معين: رأيت وكيع بن الجراح أخذ في كتاب الزهد يقرؤه، فلما بلغ حديثاً منه ترك الكتاب ثم قام فلم يحدِّث، فلما كان الغد وأخذ فيه بلغ ذلك الحديث قام أيضاً ولم يحدث، حتى صنع ذلك ثلاثة أيام. فقيل ليحيى: وأي حديث هو؟ قال حديث عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو كأنك عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور.
ومع كل هذه العبادة والزهد كان وكيع رحمه الله يقول: ما هناك إلا عفوه، ولا نعيش إلا في ستره، ولو كشف الغطاء انكشف عن أمر عظيم.
وشغر منصب القاضي في الكوفة فاستشار هارون الرشيد أهلها فيمن يوليه، فأشاروا عليه بثلاثة من علمائها منهم وكيع بن الجراح، فأرسل إليهم، وهم عبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، ووكيع بن الجراح، فلما دخلوا عليه قال ابن إدريس: السلام عليكم وطرح نفسه كأنه مفلوج؛ فقال هارون: خذوا بيد الشيخ: لا فضل في هذا. وأما وكيع فقال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، ما أبصرتُ بها منذ سنة. وأشار بسبابته إلى عينه، فظن هارون أنه يعني عينه وإنما عني وكيع سبابته، فقال: هذا عذر. وأما حفص بن غياث فإنه قال له: علي دين ولي عيال، فإن كفيتني وأعفيتني وليت، قال: بلى، فولاه القضاء. وكان حفص بن غياث رجلاً صالحاً كفؤاً، فقال وكيع بن الجراح: أهل الكوفة اليوم بخير؛ أميرهم داود بن عيسى، وقاضيهم حفص بن غياث، ومحتسبهم حفص الدورقي.
أما سعة أخلاقه ووافر كرمه فكانا مضرب المثل، جاء رجل إلى وكيع بن الجراح فقال له: إني أمُتُّ إليك بحُرمة، قال: وما حرمتك؟ قال: كنت تكتب من محبرتي في مجلس الأعمش. فوثب وكيع، فدخل منزله؛ فأخرج له صرة فيها دنانير، وقال: اعذرني فإني ما أملك غيرها. وحدث رجل من أهل بيت وكيع قال: أورثت وكيعاً أمه مئة ألف، وما قاسم وكيعٌ ميراثاً قط. أي لم يخلف مالاً وراءه. وكان وكيع صاحب هيبة واتزان لا يغضب بواحدة، فإذا غضب سكن غضبه بالتؤدة والوقار، وروي عن وكيع أن رجلا أغلظ له، فدخل بيتاً، فعفَّر وجهه ثم خرج إلى الرجل، فقال: زِدْ وكيعا بذنبه، فلولاه ما سُلِّطتَ عليه.
شارك وكيع في الرباط مع المرابطين في الشرق والغرب، فمكث في عبادان 40 ليلة في سنة 184، وذهب للرباط إزاء الروم في المصيصة وطرطوس، وعاد منها إلى دمشق فلقي حفاوة في طريقه من كل بلد مرّ بها، قال أحد مرافقيه: وأقبلنا جميعا من طرسوس، فأتينا الشام، فما أتينا بلدا الا استقبلنا واليها، وشهدنا الجمعة في مسجد دمشق، فلما سلم الإمام أطافوا بوكيع، فلما انصرف الى أهله فحدثت به مليحاً ابنه فقال: رأيت في جسده آثار خضراء من كدمات زحام ذلك اليوم.
وقد تبين لنا فيما سبق جلالة وفقه وتقوى هذا الإمام، ولكنه وقع غفر الله له في زلة عالم، كما قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، فقد روى خبراً منكراً منقطع الإسناد مفاده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تغير بعد وفاته كما يحصل لبعض الموتى، والخبر إلى جانب ما ذكرناه من ضعفه، يعارض الأحاديث الصحيحة التي تقول إن الأنبياء أحياء في قبورهم، وأن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وحدّث وكيع بهذا الخبر في مكة المكرمة عندما أتاها للحج سنة 184، فهاجت عليه العامة والعلماء، فأودع السجن، ورفع الأمر إلى والي مكة، وأفتى شيخ الحرم عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد بقتله، ونصبت له خشبة خارج الحرم ليصلب عليها، وكاد أن يتم ذلك لولا أن تدخل سفيان الثوري وبيَّن فضل وكيع وأقنع الوالي بإطلاق سراحه وإرساله إلى بغداد، ففعل، وما كان ذلك ليطفئ سورة غضب الناس فكتب أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه. وبلغ ذلك بعض أصدقاء وكيع فأرسلوا إليه بريدا أن لا يأتي المدينة، ويمضي من طريق الرَبَذة، وكان قد جاوز مفرق الطريقين، فلما أتاه البريد، عاد ومضى إلى الكوفة.
وحج وكيع بن الجراح بعدها في سنة 196 ولما عاد من الحج شعر وهو في الطريق إلى الكوفة بدنو الأجل، قال أحد أصحابه: كنت مع وكيع حين رجع من مكة حتى مات، قال: فقال لي بفيد: أنا في السَّوق ولكن أقطع نفسي مخافة أن يغتم ابني هذا، يعني أحمد، ثم قال: بقيَ علينا من السنة باب لم ندخل فيه، اخضُبْني.
خلَّف الإمام وكيع بن الجراح بضعة أبناء، أكبرهم سفيان، وبه يكنَّى، وكانت له رواية عن أبيه وغيره، روى عنه الترمذي وابن ماجة، وتوفي سنة 247، وله ابنٌ اسمه مَليح توفي سنة 229 وروى عن والده الذي أسماه مليحاً على اسم أخ له توفي وهو شاب وكان كذلك من طلبة الحديث.
ولوكيع بن الجراح كتب، منها تفسير القرآن، والسنن، والمعرفة والتاريخ، والزهد، ولم يطبع منها غير الأخير، وتفسيره مثل تفاسير أقرانه من هذه الطبقة يجمع ما روي من أقوال الصحابة والتابعين في تفسير آيات القرآن الكريم.
وترد عنه في ثنايا الكتب أقوال في غاية السداد والحكمة، منها قوله: إنما العاقل من عقل عن الله أمره، ليس من عقل أمر دنياه. وقوله: زكاة الفطر لشهر رمضان، كسجدتي السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر السهو نقصان الصلاة. وقال: طريق الله بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق. وكان رحمه الله يرى ألا يقال مسيلم ولا مسيجد ولا مصيحف، ونحو ذلك تعظيماً لها.
وقال المحدث المعمَّر الحسن بن عرفة، المولود سنة 150 والمتوفى سنة 260: حدثني وكيع بن الجراح بأحاديث فلما كان من الغد سألته عنها، فقال لي: ألم أحدثك بها أمس؟ قلت: بلى ولكني شككت، قال: لا تشك فإن الشك من الشيطان.
وجاء إلى وكيع رجل يناظره في شيء من أمر المعاش و الورع،: فقال له وكيع: من أين تأكل؟ قال: ميراثا ورثته عن أبي، قال: من أين هو لأبيك؟ قال: ورثه عن أبيه. قال: من أين هو كان لجدك؟ قال لا أدري. فقال له وكيع: لو أن رجلا نذر لا يأكل إلا حلالاً، ولا يلبس إلا حلالاً، ولايمشي إلا في حلال، لقلنا له اخلع ثيابك وارم بنفسك في الفرات، ولكن لا تجد إلا السعة.
ثم قال وكيع: لو أن رجلا بلغ في ترك الدنيا مثل سلمان وأبي ذر وأبي الدرداء ما قلنا له زاهدا، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المحض، والحلال المحض لا نعرفه اليوم، فالدنيا عندنا حلال وحرام وشبهات، فالحلال حساب، والحرام عذاب، والشبهات عتاب. فأنزل الدنيا بمنزل الميتة؛ خذ منها ما يقيمك، فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كانت حراما كنت قد أخذت منها ما يقيمك، لأنه لا يحل لك من الميتة إلا قدر ما يقيمك، وإن كانت شبهات كان فيها عتاب يسير. فقيل له: وأنت يا أبا سفيان من أين تأكل؟ قال: آكل من رزق الله وأرجو عفو الله.
فأين نحن اليوم؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين