(الكسوف) تعمية لا توعية

 

- جدو جدو ألا تريد مشاهدة الكسوف غداً ؟

صرخت حفيدتي ذات الست سنوات وهي تودعني بعد زيارتها لنا، وأبويها ينتظرانها بالسيارة !

 

أجبتها:

لا.. لا أريد مشاهدة كسوف الشمس، أخاف على بصري !

قالت: يا جدي انظر إليها بالنظارة الخاصة ولا تخاف !

 

قلت:

حاضر.. وطبعتُ قبلة على وجنتها مع أخيها.

كان صدى كسوف الشمس الذي ظهر عبرَ الولايات المتحدة الأمريكية بالأمس كبيراً، حيث مرّ القمر بين الأرض والشمس فأصبحا الثلاثة لبرهة على استقامة واحدة، حجب القمرُ خلالها قرص الشمس كلياً في مناطق، وجزئياً بمناطق أخرى.

إنّ كسوف الشمس ظاهرة طبيعية فلكية من آيات الله، حدثت في عهد النبي ? وتصادفت مع موت إبنه إبراهيم، فانحرف فكر الناس، وظنّوا أن الشمس قد انكسفت حزناً لموت إبراهيم، فأعاد النبي تقويم الفكر، وصححهّ حيث قال:

"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة"

أرسلت لي ابنتي في الأمس بعد الكسوف مباشرة رابطاً لمدرسة حفيدتي على برنامج التواصل، حيث وجِدَ الأطفال يجلسون في باحة المدرسة يشاهدون الكسوف مباشرة، والإبتسامة على وجه الجميع دون هلع ولا خوف، ودار حوار بين أبنائي يلوموني لعدم السماح لهم بمشاهدة كسوف الشمس عندما كانوا في سوريا قبل أن تشتعل أحداثها، حتى كتب ابني تعليقاً على ال?يديو يقول:

 

هههه نحنا كنا نعطّل من المدرسة أيام الكسوف ????

 

بعد قراءة التعليقات بين أبنائي، نظرت إلى شعاع الشمس من نافذة غرفتي أستعيدُ حالة المجتمع السوري أثناء كسوف الشمس في دمشق !

 

منذ عدة سنين حدث كسوف مشابه في سوريا، وكانت البقعة المفضلة في العالم لرؤية الكسوف بشكل واضح هي قرية "عين ديوار" الواقعة في أقصى شمال شرق سوريا بمحافظة الحسكة، والتي ذهب إليها الكثير من هواة الفَلك في العالم لتسجيل ذاك الحدث !!

وقامت السلطات في كل المحافظات السورية بحملات توعية وتحذيرية للمواطنين من النظر إلى الشمس حين الكسوف، كي لا يتأثروا بأشعتها تحت الحمراء التي تظهر بعد فترة من الزمن وتسبب العمى الدائم، وكان كل من يسمع كلمة "العمى الدائم" يكره الشمس وكسوفها، والنظر إليها !

 

بدأت حملة التوعية قبل اسبوعين من الكسوف، واستنّفرت محطات الإذاعة والتلفزيون المحلية والفضائية لأجلها، وشارك بعض الممثلين فيها يحذرون الأطفال من النظر إلى الشمس إلا من خلال نظارات تُصنع من صور الأشعة السينية (اكس ري) إذا وجِدَت لديهم بالبيت، أو من خلال قطعة زجاج تُطلى بنقاط دمع شمعة مشتعلة، أو وضع نظارة نظامية صناعة أوروبية أو أمريكية (لا ندري من أين نحصل عليها أو نشتريها) !

 

وفي يوم الكسوف بدمشق..

صدر قرار وزاري بعطلة رسمية خوفاً على عيون الشعب، وخفّت الحركة في الشوارع كيومٍ ممنوع التجوال فيه، كان الجميع في المنازل أو داخل المحلات إلا من أراد التمرّد على الشمس والنظر إليها بالعين المجرّدة، أو من نظارة صنعها دون الخوف من العمى !

ومن كثرة الإلحاح والتنبيهات الرسمية بالإذاعة والتلفزيون، والتحذير المستمر من العمى، خشيت كغيري على عائلتي، وأغلقتُ النوافذ والستائر، ومنعت ضوء النهار من دخول البيت كي لا نصَاب بالعمى !!

مرّت تلك الذكريات كشريط فيلم سينمائي وأنا واقف كالعامود أنظر من نافذتي وأقارن بين كسوف الشمس في سوريا وأمريكا !

كانت حملة الكسوف بأمريكا تشجيعية ومحفّزة ومدعومة بأفلام حقيقية من وكالة "ناسا" المسؤولة عن البرنامج الفضائي للولايات المتحدة الأمريكية، والأطفال متشوقين لرؤية اختباء الشمس وراء القمر !

ولكن الفرق كبير وشاسع بين وجود الأطفال بأمريكا ووجودهم في البلدان العربية، فأمريكا تبرز أهمية الطبيعة وظواهرها ليتآلف الأطفال معها، بينما البلدان العربية تدّبُ الرعب والخوف فيهم وترهب أفكارهم من الظواهر الطبيعية، وأثناء مقارنة إجابيات وسلبيات البلاد بذاكرتي رنَّ الجوال لينبّه شرودي بصوت ابنتي تقول:

بابا هل شاهدت حفيدتك تشاهد الكسوف بالنظارة ؟

فأجبتها:

نعم يا ابنتي.

قالت:

وهل قارنت بين حملات التوعية هنا وهناك ؟

فأجبتها:

نعم يا ابنتي، ووجدت الكبار ببلادنا بحاجة لتوعية قبل الصغار، فبرامج أمريكا هدفها التوعية، أما برامجنا كلها تعمية !!

انتهى الكسوف وانتهى الحوار..

تعليق:

نحن لا نقصد المقارنة بين البلدان بالثقافة والدين والمجتمع، بل في تربية الأجيال على الواقعية والبحث العلمي والمعرفة، لتكون قادرة على نقلها للآخرين دون تردد ولا خوف.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين