عن المسيري وبيغوفيتش

من حسن حظي أنني أنتمي لجيل تفتح وعيه على فكر د.عبد الوهاب المسيري, فبعد أن انتهى من موسوعته الضخمة عن اليهودية والصهيونية عام 1998 والتي أخذت منه حوالي ربع قرن في التأليف ، وقد هدده الموساد مرات عديدة لثنيه عن ذلك ، تفرغ للفكر الاسلامي ومجابهة الأفكار المخالفة له , فقد كانت له جهود جبارة في كشف زيف المنحى العلماني الغربي وما يحويه من مضامين أيديولوجية كالأبعاد الداروينية في السياسة والفكر والاجتماع والتربية .. 

مستفيدا من دراسته في أمريكا وحواراته المطولة مع آكاديميين ومفكرين كبار ..

فأصبح في السنوات الأخيرة من أهم المفكرين الاسلاميين, ( ولنتجاوز هنا من اعتبره مفكر عالم ثالثي لا إسلامي !! )  وكم آلمني د. فيصل القاسم عندما جمعه مرة في الاتجاه المعاكس مع سيد القمني , لأن الأخير لا يناسب مستواه مطلقا  كونه أقرب لمجرد كاتب صحفي بالإضافة لكونه مماحك وسليط اللسان .. بخلاف رصانة واتزان وعمق المسيري .. 

ما يهمني الآن هو تأثره بالرئيس البوسنوي الراحل "علي عزت بيغوفيتش " حيث كان سببا في هدايته للإسلام وترك الشيوعية كما روى في مذكراته .

فقد أشار أنه هو من لفت نظره إلى قضية النزعات المادية عند الغرب, والبحث عن أهم تمايزات الفكر الاسلامي  ..

إلا أني وجدت بعض الفروق بينهما, فمثلا كثيرا ما رأيت المسيري يهاجم ( الفكر الامبريالي) ولا أدري هل لهذا علاقة بتاريخه اليساري ؟ 

فقسوة خطابه تجاه الغرب , هي بخلاف بيغوفيتش كونه أقل حدة , بل إنه أمّل بعلاقة جيدة من الغرب ( بحكم انتمائه الأوروبي ) , ولا أقصد هنا مجرد البعد السياسي , بل حتى المعرفي فقد وجد مشتركات مع الثقافة الأنكلوسكسونية ! 

 

كما لاحظت تأثره به أيضا في فكرة الثنائيات ( الروح والمادة ) أو ( الإنساني والحيواني ) .. 

إلا أن المسيري كان حرفيا في هذه الثنائيات , بمعنى أنه ليس عنده إلا ( الدين والإلحاد ) بينما بيغوفيتش وجدت أنه ميز بين ( الدين والمادة والإسلام ) فالإسلام عنده شئ مستقل جمع بين ( الدين والمادة ) معا , لذا هو أكثر تمايزا , وأظن أن لخلفية كل منهما الثقافية أثراً في ذلك .

وهذا عندي يفسر وقوع المسيري ببعض الأخطاء كتمييزه بين ( العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ) فقط , ثم ميله إلى الجزئية تفسيرا لحديث ( تأبير النخيل ) !! في حين كان بإمكانه مثلا أن يُنشئ قسما ثالثا , وإن كنا نرفض هذا مطلقا.

أما ما جمعهما في الصفات فهو العمل , فبيغوفيتش رئيس دولة سارت على درب السياسة والجهاد معا , والمسيري يعتبر من مؤسسي حركة " كفاية " المعارضة وله حضور قوي في المظاهرات رغم مرضه وكبر سنه , بالإضافة لاهتمامهما بما يشغل الناس العاديين , فالأول اهتم بدراسة الدراما والفنون .. , وكذلك الثاني فقد تكلم عن ظاهرة ( الفيديو كليب ) بتحليل علمي ,  وكان آخر ما درسه هو تحليل النكتة الشعبية المصرية ..

 

- بالنسبة لكتب كل منهما :

مرتكزات بيغوفيتش كتابان , الأول ( الاعلان الاسلامي ) وهو صغير الحجم بسيط المعاني حركي الفكر راديكالي الاتجاه , وقد اعتقل بسببه .

الثاني :  ( الإسلام بين الشرق والغرب ) وهو كتاب يحتاج لروية في مطالعته لدقة معانيه, وإن كانت مفرداته سهلة بالإجمال, كما أنه يعتبر من عيون الفكر الاسلامي المعاصر ، وقد درسناه، بفضل الله، مع بعض الأخوة في / حي الوعر المحاصر/ .

أما المسيري فهو من المؤلفين الذين يكررون أنفسهم , بمعنى أن أفكارهم مكررة في غالبية كتبهم , وبالنسبة لي فإني أنصح القارئ لفهم اطروحاته بكتاب ( الفلسفة المادية وتفكيك الانسان ) أو ( العالم من منظور غربي ) لكن لا بد من الرجوع إلى الجزء الأول من موسوعته عن اليهودية وكذلك ملحق كتابه ( اللغة والمجاز ) لفهم مصطلحاته الخاصة به .

 

بدأت كلامي بالقول ( من حسن حظي ) وأختمه بالقول : بأنه من سوء حظي أني لم ألتق بالمسيري, فقد كان من المقرر أن يزور دمشق عام 2001  لأجل مؤتمر لدار الفكر , انتظرته وحضّرت له أسئلة , لكنه اعتذر عن القدوم لسورية بسبب نوبة مرضيه ألمّت به من داء السرطان الذي توفي به  لاحقا ..

رحمهما الله رحمة واسعة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين