العلامة الفقيه الفرضي الورع الشَّيخ عبد القادر بن حسن الخوجة (2)

إمام حمص الكبير وعالمها الشَّهير 

(1300- 1372هـ، 1885-1953م)

الحمد لله عالم الغيب والشَّهادة، غافر الذَّنب وقابل التَّوب شديد العقاب ذي الطَّول، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النَّهار، ويبسط يده بالنَّهار ليتوب مسيء الليل، يقول: عبدي لا تعجز، منك الدُّعاء وعليّ الإجابة، ومنك الاستغفار وعليّ المغفرة، ومنك التَّوبة وعليّ القبول، وأفضل الصَّلاة وأتمُّ السَّلام على نبيّنا ومعلّمنا وقدوتنا محمّد، وعلى آله وصحبه والتَّابعين والعلماء العاملين.

وبعد:

من بين كتابة عشرات التَّراجم التي أكرمني الله بجمعها، والعمل على تنيسقها وطباعتها، كان هناك اسمٌ يُتردَّد دائماً في شيوخ المترجَمين، هذا الاسم كان للشَّيخ الفقيه الزَّاهد عبد القادر الخوجة الذي ما فتئ حبُّه يزداد في قلبي يوماً بعد يوم، وكنت أسأل كثيراً عن حياة هذا الرَّجل العَلَم الذي ملئ الدُّنيا بعلمه، وطار صيته في زمنه بعيداً، ولكن غابت عنّا تفاصيل حياته وسيرته، حتّى أكرمني الله بابنه الأستاذ طلحة الخوجة رئيس جمعية العلماء بحمص، فجلست معه ساعات يتذكَّر فيها شيئاً من حياة والده بعد موته بقرابة السِّتين سنة.

ولا أزال أجد نفسي متأثّراً وقلبي يتحرك بخفقات كلّما تذكَّرت هذا اللقاء العلمي الطَّيب، والذي ملئه الأستاذ طلحة بقصصٍ مؤثِّرةٍ عن والده، يصحبها في كلِّ دقائق قليلة دمعات حارة كان يذرفها حباً وشوقاً لوالده العظيم.

فآليت على نفسي العمل جاهداً على إخراج ترجمته في الأعداد الأولى لهذه السِّلسلة التي كتب الله لها القبول، وهي في انتشار لم أكن أتوقعه، وهذا من فضل ربي عليّ.

فأهل هذه البلدة على درجة عالية من الطِّيب والأنس، ويشدُّهم إلى علماءهم أواصر الاحترام والأدب معهم، وقد أكرمني الله بالجلوس مع الكثيرين منهم، وخصوصاً المعمّرين لأسمع منهم قصصاً وحوادث عن الأيام التي مرَّت على هذه البلدة المباركة، وكان وفاءهم لشيوخهم كما تصوّرت.

وأسأل الله أن يكرمني ببذل المزيد من أقساط الوفاء لهؤلاء العلماء، والذين عجزت عن دفع ثمن الوفاء كاملاً لهم، وأن يحشرني ربي معهم في عليين، فقد قال الحديث الشّريف: (المرء مع من أحب).

أحبُّ الصَّالحين ولسـتُ منهم * لعلي أن أنـال بهم شـفاعه

وأكـره مـن بضاعته المعاصـي * وإن كنَّا جميـعاً في البضاعه

والحمد لله ربّ العالمين.

الشَّيخ الفقيه الفرضي الزَّاهد الورع

العلامة عبد القادر الخوجة

اسمه ونسبه ونشأته:

هو العالم المدقِّق، والفقيه المحقِّق، والعامل الورع، الشَّيخ عبد القادر الخوجة، ولد بحمص سنة (1300هـ، 1885م) على الرَّاجح، من أبوين فاضلين صالحين.

أمَّا والده فهو الشّيخ حسن الخوجة، سليل بيت العلم والتَّقوى، وكان شيخ زمانه، وكان مدرِّساً في جامع البازرباشي، وكان ذو رأيٍ ومكانة كما في وثيقة المحكمة الشَّرعية تاريخها 1330هـ (1).

وكان للشَّيخ حسن ثلاثة أولاد: عبد القادر، وأبو الفتوح الذي توفي في العشرين من عمره غرقاً، واحتسبه والده عند الله تعالى الذي لا تضيع ودائعه، والدتهما: فاطمة صافي شقيقة الشَّيخ أحمد صافي رحمه الله، وأمّا ولده الثَّالث: فهو صبري الخوجة والدته من آل عبد العظيم.

الخوجة:

كلمةٌ تركية في الأصل تعني الشَّيخ العالم، أو شيخ الصَّنعة، وما شابه ذلك، وأطلقت على الشَّيخ حسن ومن بعده الشَّيخ عبد القادر لأنّهم من بيت علم وتقوى وصلاح ولا نزكِّي على الله تعالى أحداً.

زواج الشَّيخ وأولاده:

لمّا وصل الشَّاب عبد القادر إلى مرحلة الشَّباب تزوّج ابنة عمّه الحاج علي بن محمد بن أحمد بن علي الخوجة، وأنجبت منه في سنة 1914م ولده البكر حسن (2) ثمّ توفيت، فتزوَّج من ابنة عمَّته فهمية بنت سليم شاهين، وأنجبت منه أولاده:

محمّد طيّب (3) سنة 1928م، وابنه الأستاذ طلحة (4) سنة 1932م، وابنه عبد المتين (5) سنة 1938م، ولم يرزق بالبنات.

النَّشأة وطلب العلم:

تربّى الشَّيخ عبد القادر في أحضان العلم والعلماء، ودرَس على علماء بلدته وأوَّلهم والده الشَّيخ حسن، وخاله العلّامة أحمد صافي، وزوج أخته العلّامة عبد الغفَّار عيون السُّود الذي تأثر به كثيراً، وواظب على حضور درسه في التَّفسير، فحضر تفسير سورة الفاتحة والبقرة، وكان من المشاركين في طبع هذا التَّفسير الفريد ونشره باسم (الرِّياض النَّضرة في تفسير سورتي الفاتحة والبقرة) (6) ، كما داوم على درسه في حاشية ابن عابدين، وقرأها عليه كاملة مرّات متعدّدة، وقرأ عليه شرح ابن حجر والقسطلاني على البخاري وأجيز منه.

وحضر حلقات الذِّكر والتَّزكية التي كان يقيمها كلٌّ من الشَّيخ سليم خلف وابنه من بعده المربّي الكبير الشَّيخ أبو النَّصر خلف رحمهما الله تعالى، كما تتلمذ على علماء آخرين سواهم.

وكان رفيقه في الطَّلب أثنائها الشَّيخ فائق السِّباعي والشَّيخ محمّد علي عيون السُّود والد الشّيخ عبد العزيز، الذي استلم إدارة المدرسة الشَّرعية التَّابعة للأوقاف (7)، ولمّا مات خلفه الشَّيخ عبد القادر في إدارتها والعمل على تعليم وتهذيب طلّابها، حتّى نبغ منهم الكثير، وأصبحوا فقهاء ومدرِّسين.

وبقي الشَّيخ في همَّته ونهمته لجمع العلم وحفظه، وأُجيز بالعلوم كافة من كثير من شيوخ البلدة حتَّى بان نبوغه، وانتهت إليه مشيخة علماء حمص (8).

كان يُشار إليه بالبنان في العلوم كلّها، وأبدع في الفقه الحنفي حتّى حاز قصب السَّبق، وانتهت إليه أيضاً رياسة المذهب الحنفي بعد وفاة شيوخه، وكان لا يفتي إلا على مذهبه، كما كان كثير العناية بالحديث الشَّريف واللغة العربيّة نحواً وصرفاً وبياناً وبديعاً، بالإضافة إلى المنطق والفرائض.

وفي امتحان فحص العمائم الذي كانت تجريه الدَّولة العثمانيّة لتؤهِّل النَّاجحين لارتداء العمامة، سأله أحد الأساتذة عن أمرٍ في اللغة العربيّة، وهو دخول (أل) على الفعل المضارع، فأجاب الشَّيخ على الفور: 

قول الفرزدق:

ما (هو) بالحكم الترضى حكومته =ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

الشَّاعر قالها: ما (أنت) ، ولكن لنباهة الشَّيخ وفطنته غيَّر هذا الضَّمير من المخاطب للغائب، فما كان من ممتحِنه إلا أن أجازه على الفور بعد هذا السُّؤال مباشرة. 

ومما يذكر عن نبوغه المبكِّر: 

أنَّ الدّولة العثمانيّة ساقت كلَّ شباب وكبار البلدة إلى حربها التي عرفت بسفر برلك، ولم تأخذ الشُّيوخ والعلماء لمكانتهم الاجتماعيّة، وكان منهم الشَّيخ جُنيد والد الشَّيخ محمود والشَّيخ محمَّد جنيد، والشَّيخ محمّد علي عيون السُّود والشَّيخ عبد القادر الخوجة، رغم أن الشَّيخ الخوجة كان شاباً يومها، وكان صاحب عِمَّة من تلك الأيام، ولمّا كانت آخر الحرب في 1918م، التحق الجميع على صفوف الجبهة للجهاد.

إقبال النَّاس والعلماء للجلوس بين يديه:

جلس الشَّيخ بعد أن اكتمل للتَّدريس والإفادة، وتقاطرت وفود الطَّلبة عليه من حمص ومن خارجها، فأخذ عنه الكثير من العلماء كالعلّامة مؤيد شمسي باشا مفتي الحنابلة بحمص (9) الذي أخذ عنه علم البديع والبيان، والعلّامة بدر الدِّين الأتاسي مفتي حمص (وهو ابن أخته) الذي قرأ عليه حاشية ابن عابدين وشرح القسطلاني، والعلّامة محمّد طيِّب الأتاسي مفتي حمص، والشَّيخ تقي الأتاسي الذي كان عالماً عظيماً، وكان من تواضعه يحضر دروس الشّيخ الخوجة، ولمّا سُئل عن السّبب قال: إني أريد أن أموت طالب علم، وكان الشّيخ الخوجة يقول: استفدنا من الشّيخ تقي، فصرنا نحضّر الدُّروس (10).

كما تلقّى العلم عنه الشَّيخ عبد الجليل مراد، والشَّيخ سعد الدِّين الجيباوي شيخ الطَّريقة السَّعدية بحمص، والعلَّامة المقرئ عبد العزيز عيون السُّود، والعلّامة المُقرئ عبد الغفَّار الدُّروبي الذي أخذ عنه الفقه والتَّفسير والحديث، والعالم الفقيه عبد الفتَّاح المُسدِّي الذي قرأ عليه حاشية ابن عابدين ثلاث مرّات وشرح الفقه الأكبر لمُلّا علي القاري وإرشاد السَّاري شرح صحيح البخاري للعلامة القسطلاني وتفسير ابن كثير والإظهار في النَّحو. 

كما درس عليه الشَّيخ الإمام وصفي المُسدِّي حاشية ابن عابدين وشرح القسطلاني على البخاري ومتن السِّراجية في الفرائض، والدَّرس الأخير خَصَّه به مع صاحبه العلّامة عبد العزيز عيون السُّود في مسجد القاسمي، الذي كان يذهب إليه خصِّيصاً من أجل هذين الشّابين، وتشجيعاً لهما.

ودرس على الشَّيخ عبد القادر أيضاً علّامة حماة الشَّيخ محمَّد الحامد، وعلاّمة دير عطية الشَّيخ عبد القادر القصّاب، والإمام محمود بن كمال مندو من أئمة المسجد النُّوري الكبير وأحد خطباء حمص الذي أخذ عنه الفقه الحنفي، والشَّيخ أبو السُّعود عبد السَّلام بسمار، والشَّيخ أحمد الكعكة، والشَّيخ محمّد جندل الرِّفاعي، والشَّيخ عارف الفاخوري، والشّيخ محي الدّين الدُّوخي، والشَّيخ محمّد علي مشعل وغيرهم.

=====

(1) انظر الكتاتيب والمدارس في حمص للمؤرخ الزهراوي ص100، وحدّث الشّيخ ممدوح جنيد عن والده قائلاً: قال الوالد رحمه الله: أخذني جدُّك إلى الشَّيخ حسن الخوجة، والد الشَّيخ عبد القادر رحمه الله، وقال له: هذا ولدي (محمد) يأتي بالخبز يبيعه بجوارك وبحمايتك - لأنّ ذلك الوقت كان وقت جوع شديد، وفقر وغلاء - فأرجو معروفك بأن تعيره انتباهك، وتزن له الخبز بميزانك. انظر العدد الأول من هذه السِّلسلة.

(2) وهو فقيه فاهم، ورع تثقف على والده، وكان يُسأل عن مسائل متعددة فيفتي بدقة، ووصفه عارفوه بالصّلاح.

(3) وهو

(4) وهو قاضٍ يشار إليه بالبنان، تنقّل بين الكويت وسوريا، وهو الآن رئيس لجمعية العلماء بحمص، وقد أجرى الله الخير والفضل على يديه في الجمعية وغيرها.

(5) وهو 

(6) طبعه مؤخراً الشَّيخ محمّد عبد الرَّحمن عيون السُّود في المدينة المنوَّرة في جزأين في دار ربي زدني علماً للنشر.

(7) مكانها فوق مسجد الدَّالاتي في السُّوق، ويعود تأسيس المسجد والمدرسة إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وممن درّس فيها الشّيخ محمّد البني، والشَّيخ عبد القادر الخوجة، والشَّيخ محمّد عبد السَّلام بسمار، والشَّيخ محمّد شاكر الحمصي وغيرهم. انظر المدارس والكتاتيب للمؤرِّخ الزِّهراوي ص146.

(8) له إجازة من شيخه عبد الغفَّار عيون السُّود بصحيح البخاري وذلك عن الشَّيخ خالد الأتاسي بسنده، وتاريخه 7 ربيع الثّاني 1341هـ، الموافق 1922م. كما في كتاتيب الزّهراوي ص128. 

(9) الشَّيخ محمّد مؤيد شمسي باشا الحنبليّ ( 1316-1389هـ ، 1898 – 1969م) أخذ العلم عن الشَّيوخ: عبد القادر الخوجه ومحمّد الياسين وفائق السِّباعي، وبرع في الفقه الحنبليّ حتّى أصبح مفتي المذهب الحنبليّ في مدينته، خطب في جامع السِّراج إلى أن توفَّاه الله تعالى، شاعر مجيد له شعرٌ مميز، خاصَّة في مدح الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، من ذلك قصيدة مطلعها: 

لي بين وادي المنحنى والبان=قلبٌ يكابد لوعة الأشجان.

(10) انظر كتاب أعلام النقشبندية 1/468.