الدعائم الثلاث للعلامة:البهي الخولي رحمه الله تعالى

 

قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {النحل:90}.
ـ ذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: (ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتقرر الإسلام في قلبي، فبينما كنت عنده ذات يوم رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثلها، فسألته ، فقال: بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يمين، فأوحى إليَّ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]. قال عثمان: فطابت بها نفسي، ووقع الإيمان في قلبي، وأتيت أبا طالب، فقرأتها عليه، فتعجب لها، ونادى: يا معشر قريش، اتبعوا ابن أخي ترشدوا، فوالله إنه لا يأمر إلا بمكارم الأخلاق) [ذكره القرطبي في تفسيره (10/165) وعزاه إلى الغزنوي].
وعن عكرمة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الوليد بن المغيرة، فلما سمعها منه، قال: أعد عليَّ ما تقول يا ابن أخي... فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وسع الرجل ـ و هو مشرك ـ إلا أن يقول: (والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمغْدق، وإنَّ أعلاه لمورق) [رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/199)، بنحوه، وأبو الليث السمرقندي في بحر العلوم (2/288)، عن عكرمة مرسلاً].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هذه الآية، أجمع آية في القرآن الكريم، لخير يمتثل ولشر يجتنب) [ رواه الطبراني (9/134) بمعناه، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد "(11121): فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح].
هذا طرف يسير من أثر هذه الآية الكريمة في نفوس المسلمين وغير المسلمين حين سمعوها لأول مرة، ومن واجبنا أن نجلو شيئاً من معاني الدعائم الثلاث التي أمرت بها، والمهلكات التي نهت عنها وبالله التوفيق.
أولاً:العدل:
2 ـ العدل سرٌّ سُويت عليه الفطرة التي فطر الناس عليها، وناموس أزليٌّ أقام الله به نظام كل شيء، فبين الفطرة ونظام هذا الكون تجاوب ونسب وملائمة، فما رأى الإنسان منظراً متجانساً، أو هيئة مؤتلفة الأوضاع، أو نظاماً استقرت به منافع الناس، أو رأياً سديداً، أو قولاً حكيماً، أو حكماً أصاب محله من الحق، إلا أحسَّ أن ذلك ترجمة لصور ومعان في أصل فطرته، وكان صداه في نفسه نور يأنس به العقل، وغبطة يطمئن لها القلب، وألفة تجمعه به وتضمُّه إليه.
ولهذا قيل: العدل أساس الملك ، وهو الناموس الذي قامت به السموات والأرض.. وهو في كل شيء حده الأوسط.
3 ـ فالعدل في الاعتقاد: توحيد الله عزَّ وجل، بكل ما تشتمل عليه كلمة (لا إله إلا الله) من معنى واسع عميق... إذ هو منزلة فطرية ترفض نفي الإله الخالق، وتأبى أن يكون هذا الكون الهائل قد وجد بدون موجد... وتنظر في آيات الكون المختلفة، فترى وحدة متجانسة في رقعة السماء وما فيها، ووحدة متجانسة في رقعة الأرض وما عليها، ووحدة متجانسة في نواميس الحياة التي تضبط هذه الخلائق جميعاً، وتسلكها في نظام مؤتلف، تفيض منه المنافع، وتتم به كل نعمة مقدورة للخلائق في عالم الحس والوجدان.
فلا يملك المرء إلا أن يقرَّ بأن خالق هذه الوحدة المتجانسة الرائعة، واحد لا شريك له.
فتوحيد الله عزَّ وجل هو منزلة العدل في الاعتقاد، وهو حكم الفطرة التي سوَّى عليها خلق كل شيء، وهو بعد ذلك ـ أو مع ذلك ـ الحد الوسط بين التعطيل الذي ينفي أن يكون لهذا الكون خالق أوجده، و بين التشريك الذي يقبل تعدد الآلهة.
وعلى ضوء هذا يمكن أن نقرأ في القرآن الكريم ما جاء من التوجيه المنطقي الجميل في نفي التعطيل من مثل قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ(57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ (59)}  { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64)]. [أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ[الواقعة:69] . {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ}[الطُّور:35].
ونقرأ ما جاء في تقرير وحدة التجانس ونفي التشريك من مثل قوله جل شأنه:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4]. 
{مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].
4 ـ والعدل في الخُلق : هو التوسط بين طرفين من الرذيلة، كالحلم الذي هو وسط بين سرعة الانفعال، وكثافة الطبع لدرجة البلادة ـ والشجاعة التي هي وسط بين الجبن و التهور ـ والجود الذي هو وسط بين البخل والتبذير، وإليه الإشارة بقوله سبحانه:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
5 ـ والعدل في أعمال العبادة : أن تبذل وسعك في طاعة أمر الله، فهو وسط بين تكلف الغلو المرهق والتراخي المفضي إلى انحلال عقدة العزيمة، والله سبحانه يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)[ متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم في الحج (1337)، عن أبي هريرة].
 ويقول: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً  ولا ظهراً أبقى)[ رواه أحمد (13052) وقال مخرجوه: حسن بشواهده، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (216): رجاله موثقون، إلا أن خلف بن مهران لم يدرك أنسا، عن أنس بن مالك].
6 ـ والعدل في فلسفة الحياة هو منهاج وسط بين الروحانية المُمْعنة في التَّجرُّد، والماديَّة الموغلة في أهواء النفس الأرضيَّة وشهواتها، بحيث ينال المرء حظه من هذه وتلك على ما قدَّره الله سبحانه، وإلى تقرير هذا الأصل يتوجه قوله سبحانه للأمة الإسلامية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]. فلا هم ماديون محضاً ولا روحيّون صرفاً.
فمن انحرف عن سواء هذا المنهاج فقد انحرف عن سواء فطرته، وجنح إلى ما يظلم به نفسه، ويغيِّر خلق الله فيه ولو كان الجنوح للتجرد والرهبنة...
ولقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، يصوم ولا يفطر، ويصلي ـ يقوم الليل ـ لا ينام، واعتزل زوجته، وهجر اللحم وسائر الطيبات، فقال له:( يا عبد الله بن عمرو: إن لبدنك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، ، يا عبد الله بن عمرو: لك في رسول الله أسوة حسنة، فرسول الله يصلي وينام، ويصوم ويفطر، ويأكل الطيبات، ويؤتي أهله حقهن) [لم أقف عليه بهذا اللفظ، وهو متفق عليه: بلفظ : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسول الله قال: «فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام... رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)، كلاهما في الصيام].
أما الجنوح إلى المادية الصِّرف، والهبوط إلى متعة الأرض فيمسخ مزاج المرء ويرده إلى أدنأ صفات بعض الحيوان، ويكفي للتنفير منه، وتصوير بشاعته ما قال الله سبحانه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
وميزان هذا الأمر وفيصل الحكم فيه: ما سنَّ لنا الله سبحانه وتعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [القصص:77].
7 ـ والعدل في التطور وتجديد أوضاع الحياة، هو كياسة فطرية، ومرونة مسواة على موازين العقل، يستجيب بها المرء لمنطق الظروف المتغيرة، بحيث يأخذ من الجديد الصالح بقدر ما تدعو إليه طبيعة الحياة الجديدة، ويذر من مواريث الماضي ما أبطلته عوامل التجدد والانتقال كل يوم من شأن إلى شأن...
وهو سنن وسط بين الجمود الذي يحرمنا أكرم نعم الحياة، ويعزلنا عن فضل الله تعالى في تغيير الزمن وحكمته في مداولة الأيام، ويصببنا هياكل متحجرة في قوالب الماضين، وبين الطفرة الحمقاء التي تريدنا على الانسلاخ من كل ملابسات الزمان والمكان، وتدخل علينا ما ليس منا، وتصطنع لنا من الملابسات ما لم تتهيأ له عقولنا ولا قلوبنا، فنعيش في غير حياتنا، ونحيا غير متجانسين مع ما لفق لنا... وذلك هو الفساد البين... وما أحسن ما قال في ذلك أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: "خير الناس النمط الأوسط... إليهم يفيء الغالي ( أي من لجَّ به الغلو في السبق) وبهم يلحق أهل الحاجة والتخلف..."[رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (35639) بلفظ: " خير الناس هذا النمط الأوسط يلحق بهم التالي ، ويرجع إليهم العالي] .
8 ـ والعدل في الحكم : أن نتخلص تخلصاً تامّاً ممّا يكنفك عن يمينك وشمالك من عاطفتي الحب والبغض، حب أقاربك وأصدقائك، وبغض أعدائك وشانئيك، فإن الإنسان لا يحيد في حكمه عن الحق إلا بداعٍ من الهوى يدعوه إلى ذلك، وهذا الهوى إما عاطفة تميل بك إلى من تحب، فتحكم لهم، وإما عاطفة تنفر بك ممن تسخط فتحكم عليهم...
وقد نبَّه القرآن الكريم إلى كلتا العاطفتين وحذر منهما، فقال في الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
وقال في الثانية : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].
فإذا تخلص المرء ممَّا يثور في نفسه من هوى الحب والبغض، فقد خلى من عوامل الميل، وألفى نفسه خالياً بفطرته قائماً على حيدها، وهي فطرة لا تنطق إلا بالحق، ولا تلهم  إلا الخير، ولا يطفو على وجهها إلا نور الصواب.
9 ـ ويستطيع المرء أن يلتمس جمال كل شيء فيجده في حدِّه الوسط، حتى في الصوت الذي يؤدي به الإنسان حديثه أو قراءته، فقد روي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ بصوت عال، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: (أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان)، فقال عليه السلام: (اخفض من صوتك قليلاً) وأتى عليه السلام أبا بكر فوجده يقرأ خافضاً صوته، فسأله فأجاب: (قد أسمعت من ناجيت) ، فقال عليه السلام: (ارفع صوتك قليلاً)[ رواه أبو داود في الصلاة (1329)، والترمذي في الصلاة (447) وقال: غريب،  عن أبي قتادة] ...وإلى هذا النمط من القراءة وجهنا القرآن الكريم بقوله:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110].
ثانياً ـ الإحسان
1 ـ أما الإحسان فهو الأخذ بطرف الفضل تحصيلاً للكمال عندما يقصر بك العدل عن بلوغ ذلك... فمقابلة السيئة بمثلها عدل، ولكنه عدل يقصر بك عمَّا هو أفضل من الدرجات، والله سبحانه يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصِّلت:35]. وأقرب إلى المراد من هذا قولهسبحانه:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل:126]. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [الشُّورى:40]. {وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ[المائدة:45] .
روي أن غلاماً قام يصبُّ الماء للخليفة المأمون ليتوضأ، فوقع منه الإبريق في الطست، فطار الرشاش إلى وجه المأمون وثيابه، فهلع الغلام وأيقن أنه مأخوذ بالعقاب لا محالة، فتضرع إليه قائلاً: ( يا مولاي، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ }... فقال المأمون: كظمت غيظي... قال الغلام: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }... قال المأمون: عفوت عنك... قال الغلام: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }... قال: اذهب فأنت حر لوجه الله) [العقد الفريد (2/60)].
وسواء أكان ذلك الخبر موضوعاً عن المأمون أم غير موضوع، فإنه يرينا مراتب التدرج في الإحسان في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن معنى قوله تعالى:{خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].فقال: (أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك) [رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة (5697)، عن قيس بن سعد بن عبادة، قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب ... إن الله أمرك أن تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك].
2 ـ والإحسان في العقيدة هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك) [متفق عليه رواه البخاري (50)، مسلم في الإيمان (8)، كلاهما في الإيمان، عن أبي هريرة ] فإن الوقوف في العقيدة عند حدِّ العدل فيها بالاعتراف بوحدانيته سبحانه، وإسقاط من عداه من الشركاء، ونبذ التعطيل ـ مرتبة تليها أخرى أفضل منها... مرتبة يرقّ فيها القلب ويصفو، وترقى حساسية الوجدان، فإذا نِعَم الله يعظم وقعها في نفسه، وآياته في الآفاق تحل في حسِّه وعقله، وتوحي إليه من أسرار الجلال والكمال نوراً يجلو لخواطره صفات الله سبحانه فتخر المشاعر هيبة وحباً، ورقابة للعرش الذي استعلن لها في الخفاء، فلا يكون في القلب أو على اللسان سوى حبه و هيبته وذكره سبحانه...وذلك هو معنى رؤيته عزَّ شأنه... رؤيته بالقلب والوجدان، والشعو، على حد قول من يقول:
خيالك في عيني وذكرك في فمي              وحبك في قلبي فأين تغيب!
ذلك كله يصور لنا ـ نوعاً ما ـ رتبة الإحسان التي تلي رتبة العدل، وهي كما نرى رتبة أرقى وأشرف.
فإذا قصر جهد المرء أن يبلغ به درجة المشاهدة ، فلا أقل ـ في مقام الإحسان ـ من أن يشعر أنه قائم تحت عين الله لا يغيب عنها شيء منه، فيدركه في عبادته وكل تصرفه، حال من الحياء تحمله على تطهير ظاهره وباطنه تحرجاً من أن يرى الله فيهما مالا يرضى...وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: (فإن لم  تكن تراه فهو يراك).
3 ـ والإحسان في أعمال العبادة: أن تتبع الفرائض نوافل...فإن ما جبل عليه المرء من ضعف البشرية، يقصر بجهده أن يبلغ بالعبادة حدَّ  الكمال مهما يكن من حرصه ورغبته في الإتقان...فإذا تقرر هذا كان الرجاء أن تتولى النافلة تحصيل الكمال الذي قصر عنه الجهد، وإلى هذا المعنى يشير قوله صلى الله عليه وسلم: (حسِّنوا نوافلكم، فبها تكمل فرائضكم) [قال على القاري في الموضوعات الصغرى (113): لا أصل بهذا اللفظ].
هذا... والنوافل بعد الفريضة فيها معنى الهدية لله، لا معنى الواجب، وهو ضرب رفيع في الإحسان، وإليه يتّجه قوله صلى الله عليه وسلم: (النافلة هدية المؤمن إلى ربه، فليحسن أحدكم هديَّته وليطيبها) [ قال العجلوني في كشف الخفاء (1138): قال على القاري: لا أصل له بهذا اللفظ، وإن كان يصح من حيث المعنى].... والمهاداة دائماً سبيل المودة، وسبب زيادة الحب، ولعل مما نستأنس به لهذا المعنى قول الله سبحانه، في الحديث القدسي المشهور: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي يرى بها.......) واه البخاري في الرقاق (6502)، وابن حبان في البر والإحسان (347)، عن أبي هريرة].
4 ـ والإحسان في الأعمال سبيل إتقانها، وسنة نظامها وكمالها وثمرها، وهو رتبة لا يبلغها المرء إلا إذا توفرت له حوافز الرغبة المسعدة، إذ ليست العبرة في عمل ما بأدائه وإنجازه، بل بالروح المهيمنة على الأداء الراغبة في الإتقان والتجويد.
وخير الحوافز أن تجعل عمل يومك كله لله تعالى، حتى عملك في الديوان والمصنع والمتجر والحقل، وتبتغي كل حيلة لصرف عوامل الأنانية عن نفسك، وتستمسك بكل خاطر يجلو لك وجه العبادة في العمل ، ويسلك بك السبيل إلى الله تعالى، فلا تغش، ولا تخون، ولا تهمل، وحينئذ يكون طلبك المثوبة من الله قائماً على مقدمات صادقة مأمولة...
وقد أعلن إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإحسان شريعة لازمة، وفريضة لا حول عنها بقوله: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) [رواه مسلم في الصيد (1955)، عن شداد بن أوس] .
ولا شك أن الإحسان على هذا النطاق الواسع، وهذا المعنى الدقيق السامي، منهاج لا تأخذ به أمة إلا تفتحت لها بركات السماء والأرض واقبلت عليها أخلاف الرزق والسعادة من كل ناحية، وبلغت من التقدم والرقي شأواً لا يبلغه سواها.
نسأل الله سبحانه أن يحسن إلينا، وأن يجعلنا من أهل الإحسان، إنه ولي النعمة وبه التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
 
المصدر: مجلة" منبر الإسلام" العدد 11 من  السنة الثانية عشر، ذو القعدة 1374هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين