وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا يسوع باراباس أم يسوع الناصري؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن قضية نجاة المسيح عليه السلام من الصلب من مسلَّمات القرآن التي لا يماري فيها مسلم، فقد جاء في سورة النساء: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّۢ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًۢا) [النساء: 157].

فإيمان المسلم يختلف في هذه القضية كليًّا عن إيمان اليهود والنصارى، الذين يؤمنون بصلب المسيح عليه السلام وقتله، لكن قراءة دقيقة لما بين سطور هذه القصة في الأناجيل المعتمدة، تبين لنا من هو المصلوب الحقيقي.

إننا نقف أمام هذا المشهد حين سأل بيلاطس الجماهير عمن يطلق لهم من السجن في يوم عيد الفصح، فقد جاء في إنجيل متى 27: 15 - 18: (وكان الوالي معتادًا في العيد أن يطلق للجمع أسيرًا واحدًا، من أرادوه، وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى باراباس، ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم: باراباس أم يسوع الذي يُدعى المسيح؟ لأنه علم أنهم أسلموه حسدًا).

وهنا مجموعة من العوامل تجعلنا نتشكك في صدق هذه الرواية وأمثالها مما ورد في الأناجيل:

أولا: لأن عادة إطلاق سجين في العيد غير ثابتة تاريخيا، ولا يرد لها ذكر إلا في الأناجيل، وقد جاء في دائرة المعارف الكتابية: "ولا نعلم شيئًا عن عادة إطلاق سجين في كل عيد أكثر مما جاء في الأناجيل، ولكن عادة إطلاق سراح الأسرى والسجناء في المناسبات المختلفة كانت وما زالت أمرًا مألوفًا"(1).

ويعلق الآباء اليسوعيون على هذه الحادثة: "عادة إطلاق سراح أحد المسجونين في عيد الفصح، لا تخلو من الاحتمال، لكنها لم يرد لها ذكر في أي مكان آخر".

ومع أن هذه العادة غير ثابتة تاريخيًّا، ومع أنها حادثة تثير الاستغراب والدهشة والتساؤل: ما الذي يدفع بيلاطس الحاكم الروماني إلى تقديم مثل هذا التنازل لليهود في عيدهم، فإننا نجد أوريجنُّس - الذي استشعر فعلا أن الموضوع مثير للاستغراب - أخذ يبرر الأمر، ويدفع ذلك الاستغراب قائلا: "لا تندهش من أن يمنح الرومان لليهود في عيد الفصح، وهم حكام فلسطين، حق المطالبة بإطلاق “أي سجين أرادوا”، مهما كانت جريمته؛ فالأمم الوثنية كانت تمنح للخاضعين لها شيئا من التساهل؛ بغية أن تحكم عليهم نير سيطرتها"(2).

ثانيا: أن الأناجيل تقدم بيلاطس في صورة ملائكية تختلف تمامًا عما عُرف به من البطش والتعسف، وقد بدأ عهده بمقتلة في اليهود لرفضهم السجود لتمثال طيباريوس قيصر، يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس: "وملك بعده [أي: بعد أغسطس] طيباريوس قيصر، وكان رجلا رديًّا قبيح السيرة، وكان الفساد ظاهرًا في كل أعماله، وكان قد أمر الناس بالسجود لصورته، وبعث بقائد له من بلد البنطس صاحب جيشه يسمى بيلاطس، ومعه صنم صورته - إلى أورشليم، ليأمر الناس بالسجود له، فامتنع اليهود من ذلك فقتل منهم جماعة كثيرة"(3).

ويؤكد البابا بندكت السادس عشر المفارقة بين الصورة التي تقدمها الأناجيل لبيلاطس وما يذكره المؤرخون عنه، بما يوحي برفضه لتلك الصورة التي تقدمها الأناجيل، فيقول: "ففي حين أن فلافيوس يوسيفوس، وبخاصة فيلون الإسكندري، يعطيان عنه صورة سلبية، يشهد آخرون بأنه كان ذا تصميم وحزم، براغماتيًّا وواقعيًّا، يقال مرارًا: إن الإنجيليين الذين كانوا يميلون إلى الرومانيين لأسباب سياسية، قدموه دائما في صورة أكثر إيجابية، ملقين على اليهود تدريجيا مسؤولية موت يسوع.

في الواقع لم يكن هناك من سبب يدعم هذا الميل في وضع الإنجيليين التاريخي، فعندما كُتبت الأناجيل كان اضطهاد نيرون قد أظهر للعيان وحشية الدولة الرومانية، وتعسف السلطة الإمبراطورية، وإذا استطعنا إرجاع تاريخ كتابة سفر الرؤيا إلى الزمن الذي كتب فيه إنجيل يوحنا، ظهر بوضوح أن الإنجيل الرابع لم ينشأ في سياق يفسح في المجال لتصور محبذ للرومانيين"(4).

ثالثا: ما يثير الاستغراب والدهشة، والتشكك في هذه الروايات، أن يفكر بيلاطس مجرد تفكير في العفو عن باراباس، أو عرضه للجمهور ليختاروا بينه وبين المسيح عليه السلام، كيف وهو السجين الثائر ضد الدولة الرومانية، الذي كان يهدف إلى تقويض حكمها؟! يقول البابا بندكت: "فبحسب ترجماتنا، ينعت يوحنا [كاتب الإنجيل] برابَّا بأنه “لص” (18: 40)، لكن في الإطار السياسي لذلك الزمن، كان للفظة اليونانية معنى “الإرهابي” أيضا، أو مقاتل في المقاومة، واضح أن هذا هو المعنى المراد الذي استعمله مرقس: “وكان رجل يدعى برابا مسجونا مع المشاغبين الذين ارتكبوا جريمة القتل في الفتنة” (15: 7)"(5).

ويقول كينر: "”باراباس” كان شخصية تلقى قبولا وإعجابا لدى أولئك الذين كانوا يميلون إلى العنف في مواجهة الضغط الروماني، وهو ما كان مختلفا عن أسلوب يسوع"(6).

رابعًا: إن صحت الرواية بأن بيلاطس كان من عادته أن يطلق لهم سجينا مدانا في يوم العيد، فهذا الأمر لا ينطبق على المسيح عليه السلام، لأن بيلاطس حاكم المسيح حسب رواية الأناجيل، وأصدر حكمه بتبرئته، ولم يعد مدانا، فقد جاء في إنجيل لوقا 23: 13 - 16 [الترجمة اليسوعية]: (فأحضر بيلاطس عظماء الكهنة والرؤساء والشعب، وقال لهم: أحضرتم لدي هذا الرجل على أنه يفتن الشعب، وها قد حققت في الأمر بمحضر منكم، فلم أجد على هذا الرجل شيئا مما تتهمونه به، ولا هيرودس؛ لأنه رده إلينا، فهو إذًا لم يفعل ما يستحق به الموت، فسأعاقبه ثم أطلقه).

خامسا: هنا أمر جوهري فضلت تأخيره إلى هذا الموضع، وهو ما يحل لنا تلك المعضلة، وهو اسم هذا السجين، "باراباس"، فترجمة الفانديك تذكر اسمه "باراباس" ولا تزيد على ذلك شيئًا، لكن أوريجانوس يذكر في شرحه لإنجيل متى أنه "وجد الاسم في بعض المخطوطات القديمة: (يسوع باراباس) في (مت 27: 16 و17)، كما يظهر الاسم على هذه الصورة في المخطوطة (O) من القرن التاسع، وفي بعض المخطوطات السريانية، ولو صح أن اسمه الأول كان يسوع - وهو أمر غير مستحيل في ذاته - فإنه يجعل عرض بيلاطس أقوى وقعًا: (من تريدون أن أطلق لكم: يسوع باراباس؟ أم يسوع الناصري؟)"(7). ويشير محررو دائرة المعارف الكتابية إلى "أن كثيرين من العلماء يقبلون هذه الصورة للاسم، إلا أنه لا يمكن الجزم بأصالتها أو صحتها"(8).

وقد اعتمدت ترجمات أخرى - غير الفانديك - هذه الصيغة للاسم "يسوع باراباس"، على اختلاف في طريقة كتابة الاسم، كإثبات الشين في "يشوع"، أو حذف السين من آخر اسم "باراباس"؛ كونها علامة إعراب في اليونانية، أو إسقاط الألف بين الباء والراء، ومن تلك الترجمات: الترجمة اليسوعية، والعهد الجديد ترجمة بين السطور يوناني - عربي، والترجمة العربية المشتركة، التي جاء في حاشيتها: "يشوع باراباس: قراءة تعتمد على بعض المخطوطات المهمة".

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا حُذِف الاسم الأول لهذا السجين: "يسوع"؟ تُرى هل يكون يسوع باراباس هو المصلوب ذلك اليوم؟ إذا كان المصلوب اسمه يسوع فلم لا يكون يسوع باراباس؟

لكن لا بد من البحث عن دلائل أخرى لتأكيد هذه الفكرة أو الإعراض عنها، لكن ما يثير الدهشة أكثر في اسم هذا الرجل "بارابَّاس"، أنه يعني "ابن الآب"، فـ"بار" بالآرامية تعني "ابن"، و"آبا" تعني "الآب"(9)، إذن هذا الرجل هو "يسوع ابن الآب"، فإذا كان النصارى يدعون الله سبحانه آبا، ويدَّعون أن المسيح ابن الله، فالمسيح إذن يسوع برابَّاس، فتطابق اسم هذا الشخص مع اسم المسيح، وتطابق لقبه مع اللقب الذي خلعه النصارى على المسيح عليه السلام، قد يرجح أن المصلوب هو يسوع برابَّاس.

بل إن التهمة التي تذكر الأناجيل أن المسيح حوكم وصلب لأجلها - هي نفسها التهمة التي لأجلها سجن باراباس، وهي إثارة الفتنة، وتأليب الشعب، والثورة على الرومان، وإذا كان هيرودس وبيلاطس قد برَّآ المسيح عليه السلام من هذه التهمة، فإن باراباس كان مدانا بهذه التهمة، فقد جاء في لوقا 23: 19: (وكان ذاك قد ألقي في السجن لفتنة حدثت في المدينة وجريمة قتل).

ويشرح لنا مرقس الأمر بشكل أوسع فيقول 15: 7: (وكان رجل يدعى برابا مسجونا مع المشاغبين الذين ارتكبوا جريمة القتل في الفتنة).

ويعلق الآباء اليسوعيون على هذا النص في إنجيل مرقس: (يفترض التوضيح المذكور أننا أمام حادث معروف، وأن برابا لم يكن لصا مجرما كسائر اللصوص، بل زعيم فتنة ثائر على المحتل الروماني).

وإذا كان يوحنا يكتفي بوصفه باللص، فإن البابا بندكت يؤكد أن اللفظة اليونانية كان لها في الإطار السياسي لذلك الزمن معنى “الإرهابي” أيضا، أو مقاتل في المقاومة(10).

كما يتضح من النص السابق لمرقس أن باراباس لم يسجن وحده، بل كان معه بعض المشاغبين، والشخص المصلوب لم يصلب وحده، بل صلب معه شخصان آخران، وصفهما لوقا بالمجرمين، ووصفهما متى ومرقس باللصين، وهو أيضًا الوصف الذي وُصِفَ به باراباس حسب إنجيل يوحنا 18: 40: (وكان باراباس لصًّا)، فيفهم من ذلك أن هؤلاء الأشخاص قد قاموا بثورة وقع فيها قتلى، وحدثت بعض أعمال اللصوصية أثناء تلك الثورة، فاتهموا بأنهم لصوص، أو لعله أطلق عليهم ذلك الوصف تشويهًا لثورتهم، كشأن كل الثورات التي شوهت.

ونجد كينر في تعليقه على (متى 27: 38) يشير إلى أن وصف اللصوصية كان يطلق على المتمردين، فيقول: "كلمة “لصوص” هنا هي المصطلح الذي استخدمه يوسيفوس ليشير إلى المتمردين، وربما كانوا من رفاق باراباس"(11).

إن الصلب إذن تم بحق عدد من المتمردين، الذين لم يكن من بينهم المسيح عليه السلام بكل تأكيد، وليس من الحكمة أن رأس الفتنة وزعيمها "باراباس" يطلق سراحه، بينما يصلب ويقتل أتباعه، بل الحكمة تقتضي أن رأس الفتنة يقطع، وإن تم الإفراج عن الأتباع، وهذا خلاف ما تذكره الأناجيل، فهل بلغت السذاجة والبلاهة من بيلاطس إلى هذا الحد؟

إن أحداث الصلب لم يشهدها تلاميذ المسيح؛ لأنهم كانوا قد هربوا جميعا، فقد جاء في إنجيل مرقس 14: 50: (فتركه الجميع وهربوا)، حتى إن بعضهم هرب عريانًا (مر 14: 51 - 52): (وتبعه شاب لابسًا إزارًا على عريه، فأمسكه الشبان، فترك الإزار، وهرب منهم عريانًا).

بينما كان شهود العيان كلهم من اليهود، وهذا يجعل شهاداتهم مقبولة عن شهادات كتبة الأناجيل الذين لم يعاصروا هذه الفترة أصلا، فضلا عن معاصرة الأحداث ومشاهدتها، وهنا شهادتان لليهود قد وردتا في الأناجيل يجب تسليط الضوء عليهما:

الأولى: جاء في إنجيل متى 27: 46 - 49: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا: إنه ينادي إيليا. وللوقت ركض واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلًّا وجعلها على قصبة وسقاه، وأما الباقون فقالوا: اترك لنرى هل يأتي إيليا يخلصه؟).

وفي إنجيل مرقس 15: 34 - 36: (وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إلوي إلوي، لما شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا: هو ذا ينادي إيليا. فركض واحد وملأ إسفنجة خلًّا وجعلها على قصبة وسقاه قائلا: اتركوا لنر هل يأتي إيليا لينزله؟).

فهنا صرح شهود العيان من اليهود أن المصلوب كان ينادي شخصًا اسمه إيليا، وأخذوا يسخرون منه، ويقولون: لنر إن كان إيليا يأتي ليخلصه، وهذا يثبت أن الاسم الذي نطق به هو إيليا، بينما كاتبا الإنجيل اللذان لم يكونا معاصرين لهذه الفترة من الزمن يتدخلان لشرح كلام لم يسمعاه بآذانهما، ولا سمعه أحد من تلاميذ المسيح عليه السلام، ويقولان إنه كان يقول: إلهي إلهي، ولا شك أن تفسير اليهود لما شاهدوه هنا أوثق من تفسير كاتبي الإنجيل، لكن السؤال الجدير بالطرح هنا هو: من إيليا هذا الذي كان المصلوب يناديه؟

إن هذا النداء من المصلوب هو نداء استغاثة يشبه استغاثة المتصوفة بالأولياء والصالحين في التراث الإسلامي، أو استغاثة النصارى بالعذراء أو المسيح.. لقد كان اليهود كذلك يستغيثون بإيليا النبي، على ما يشرحه كريج س. كينر إذ يقول: "ولأنه كان هناك اعتقاد بأن إيليا لم يمت قط، ظن بعض المعلمين أن الله كان يرسله في مهام مثل الملائكة؛ وذلك لتخليص المعلمين الصالحين الأبرار من المشاكل والأزمات"(12).

فإذا كان المصلوب هو المسيح عليه السلام، وإذا كان على ما يعتقده النصارى هو الإله، فهل يليق بالإله أن يستغيث بأحد من خلقه؟! إنها استغاثة رجل بائس لم يجد ملجأ مما هو فيه إلا ما رسخ في الوجدان الشعبي من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين.

أما الشهادة الثانية فهي قول اليهود بعد رفع المصلوب حسبما جاء في متى 27: 43: (قد اتكل على الله، فلينقذه الآن إن أراده؛ لأنه قال: أنا ابن الله).

والمسيح عليه السلام لم يثبت عليه في الأناجيل أنه قال: أنا ابن الله "بالمعنى اللاهوتي"، بل كانت التهمة التي وجهها له اليهود - كما سبق - أنه كان يؤلب الشعب ليثوروا ضد حكم الرومان.

وصحيح أن هناك نصوصًا دُعِيَ فيها المسيح ابن الله ولم يُنْكِرْ ذلك على قائليه، لكنَّ ذلك محمول على ما شاع في لغة اليهود، والمتأمل للغة الأسفار في العهد القديم والجديد يتبين أن هذه العبارة لا تعني شيئا مما يفهمه النصارى، وليس فيها دلالة على ألوهية المسيح عليه السلام، فقد جاء في دائرة المعارف الكتابية: "بينما يبدو أمام الذهن البشري العادي أن لقب "ابن الإنسان" يشير إلى الجانب الإنساني في الرب يسوع المسيح، فإن لقب "ابن الله" يبدو أنه يشير إلى الجانب الإلهي، ولكن ليس من السهل قبول هذا على علاته، إذ يكفي إلقاء نظرة سريعة على الحقائق لينجلي الأمر حتى أمام القارئ العادي؛ فالكتاب المقدس يطلق هذا اللقب على أشخاص مختلفين ولأسباب مختلفة"(13).

وأما الموضع الذي يمكن الاحتجاج به لنقض تلك الفكرة، فهو ما جاء في إنجيل يوحنا 10: 30 - 36: (أنا والآب واحد، فتناول اليهود أيضا حجارة ليرجموه، أجابهم يسوع: أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي، بسبب أي عمل منها ترجمونني؟ أجابه اليهود قائلين: لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف؛ فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها. أجابهم يسوع: أليس مكتوبا في ناموسكم: أنا قلت: إنكم آلهة؟ إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب، فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله؟!).

فاليهود يعدُّون نسبة الابن لله تعالى على الحقيقة تجديفًا، مع أن هذه الكلمة مذكورة في العهد القديم، والمسيح عليه السلام احتج عليهم بذلك، وبين لهم أنه إنما استخدم اللفظ على ما شاع في لغة التوراة، ولم يدَّع البنوة لله تعالى على الحقيقة(14).

وقد ننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، ونفترض أن الشخص المصلوب هو الذي قال: أنا ابن الله، فإذا كانت كلمة ابن في الآرامية هي: (بار)، وكان الله تعالى يدعى (آبا)، فما قاله المصلوب هو: أنا بارابَّا، وهو هنا يشير إلى اسمه، وهو يسوع بارابا، وليس يسوع الناصري، ولذلك حين أسلم الروح، قال قائد المائة الذي كان واقفًا أمامه: (حقًّا كان هذا الإنسان ابن الله) [مر 15: 39]، ولا يمكن أن يكون مراده من ذلك أنه إنسان بار بريء؛ لأن بيلاطس سبق أن حكم ببراءته أصلا، ولا يمكن أن يكون مراده كذلك أنه ابن الله بالمعنى اللاهوتي عند النصارى؛ لأنه أصلا وثني، فإن صح أنه قال ذلك فعلا، فيحمل على أنه يشير إلى أن هذا الشخص هو بارابَّا، أي يسوع بارابا.

وبعد أن أسلم المصلوب روحه، جاء رجل شريف ذو وجاهة وغنى، اسمه يوسف، من الرامة، فدخل على بيلاطس، وطلب أن يأخذ جسد يسوع، وحتى لا يتساءل القارئ عن الصلة بين هذا الرجل وبين المصلوب؛ فإن متى ويوحنا يبادران بالإجابة بأنه من تلاميذ المسيح (مت 27: 57، يو 19: 38)، كيف ومتى؟ هكذا. بينما يذهب لوقا إلى أنه كان رجلا صالحا بارًّا ولم يكن موافقًا لرأيهم ولا راضيا عن عملهم، وكان هو أيضا ينتظر ملكوت الله (لو 23: 50 - 51)، ويكتفي مرقس بالإشارة إلى أنه كان رجلا شريفًا وكان ينتظر ملكوت الله (مر 15: 43)، ولا يخبرنا أحد من كتبة الأناجيل عن الصلة التي تخول يوسف هذا أخذ الجسد ليدفنه، خاصة أن المسيح كان له أم وإخوة (مت 13: 55، مر 3: 31، لو 8: 19، يو 2: 12)، بل إن اليهود لم يكونوا يكرهون إخوة يسوع الناصري؛ لأنهم لم يكونوا يؤمنون به، بحسب إنجيل يوحنا 7: 5: (لأن إخوته أيضا لم يكونوا يؤمنون به)، بل قال المسيح لهم صراحة في يوحنا 7: 7: (لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا؛ لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة).

فإذا كان الأمر كذلك، فما الذي منع إخوة المسيح أن يأخذوا جسده إن كان هو المصلوب، ويقوموا بدفنه؟! خاصة أنه "كان من المعتاد أن يحضر أفراد أسرة المحكوم عليه وأصدقاؤه تنفيذ الحكم"(15)، كما يذكر كينر.

بل العجيب أن يوسف هذا قد جاء معه نساء من الجليل وشهدن عملية الدفن (لو 23: 55)، وهذا أمر غريب، إلا أن يكون المصلوب قريبًا ليوسف هذا والنسوة اللاتي جئن معه، وبالتأكيد لم يكن المسيح عليه السلام قريبا ليوسف الرامي، وعليه فإن المصلوب لم يكن هو المسيح.

أما وقد وصلنا إلى مراسم الدفن، فوجب التنبه إلى إن رواية الأناجيل قد خالفت السياق التاريخي لهذه الأحداث، مما يطعن في هذه الروايات، ويحكم عليها بالوضع والاختلاق، ولنتعرف على السياق التاريخي من كلام كينر حيث يقول: "وكان من العادة أن يدفن المحكوم عليهم في مقابر عامة بعد عملية الصلب، ولا تجري لهم طقوس دفن محترم في مدافن أسرهم، وإن كان هناك استثناءات خاصة عندما يطالب الأقارب بالجثمان، وفي حالة جريمة الخيانة العظمى (مثل الادعاء بأنه "ملك" اليهود) لم يكن يتخذ أي استثناء، ما لم يكن للميت شخص بارز عالي القدر يدافع عنه"(16).

فالمسيح - حسب اعتقادهم - قد صلب، ومع ذلك لم يدفن في المقابر العامة، ولم يطالب أقاربه بالجثمان، بينما طالب بالجثمان رجل غريب من مدينة أخرى هي مدينة الرامة، ومع أن هذا الرجل من الرامة التي تبعد عشرين ميلا عن أورشليم/ القدس(17)، فإنه قبره - ويا للعجب - في أورشليم/ القدس، ومع أن الجريمة التي أدين بها المسيح - حسب الرواية - ادعاؤه أنه "ملك اليهود"، ما يعني عدم قبول استثناءات بحق المدان، فإن يوسف الراميّ قد استطاع أن يحصل على استثناء من بيلاطس لإقامة مراسم دفن لائقة بالمسيح، والسؤال هنا: ألم يتملك الخوف بيلاطس من ثورة الجماهير التي طالبت بصلب المسيح من قبل، أن تثور هذه المرة بسبب هذا التكريم بعد موته؟! إن بيلاطس لم يستطع أن يعارض الجماهير من قبل حين طالبت بصلب المسيح - حسب الأناجيل - ما يعني أن الجماهير كانت لها سطوة يخشاها بيلاطس نفسه!

بقي أمران أخيران يجب تسليط الضوء عليهما:

الأول: أن الجريمة التي أدين بها المسيح عليه السلام - حسب الأناجيل - جريمة بحق الدولة الرومانية، والقائمون على الصلب هم الجنود الرومان، وعليه فإن عملية الصلب ستخضع للقانون الروماني وليس لشريعة التوراة، حتى ينزل المصلوب عن الصليب قبل دخول السبت، اللهم إلا إن كان بيلاطس يحترم السبت ويقدسه كما يفعل اليهود!

الأمر الثاني: أن موت شخص على الصليب قد يستغرق ثلاثة أيام أو أربعة، فإذا وقع الصلب يوم الجمعة لعدة ساعات وتم إنزال المصلوب احترامًا للسبت، فهذا يعني إعادة صلبه مرة أخرى بعد انقضاء السبت، فلماذا لم يوضع المدان في السجن ابتداء ويتم الصلب بعد انقضاء السبت؟ خصوصا أن قوانين الفريسيين كانت تحرم تنفيذ أحكام الإعدام أثناء الاحتفال بالعيد إلا للجرائم الشديدة الفظاعة(18).

أخيرا حين ظهر المسيح عليه السلام لتلاميذه بعد وقعة الصلب، خافوا وظنوا أنهم رأوا شبحًا، لكن المسيح عليه السلام جعلهم يجسونه ليتأكدوا أنه المسيح وليس شبحا: (وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحا، فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ انظروا يديَّ ورجليَّ، إني أنا هو، جسوني وانظروا؛ فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي) [لو 24: 36 - 39].

إن قرئ هذا الحدث في سياقه دون ما أحاطه به كتبة الأناجيل من الأساطير، كتحرك الصخرة، والقيامة من الأموات، والظهور، كان ذلك دليلًا على أن المسيح أراد أن يثبت للتلاميذ أنه ليس الشخص المصلوب، وأن شخصًا آخر شُبِّه لهم - بسبب تطابق الاسم - هو الذي صلب. والله أعلم.

المراجع:

1. العهد الجديد (طبعة البروتستانت)، مع حواش وشواهد ومقدمات لكل من أسفاره، ط2، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، مكتبة السائح، بيروت، 1877م.

2. الكتاب المقدس (طبعة الرهبانية اليسوعية)، ط3، دار المشرق، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، بيروت - لبنان، 1994م.

3. الكتاب المقدس (الترجمة العربية المشتركة)، ط30، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، 1993م.

4. العهد الجديد ترجمة بين السطور [يوناني - عربي]، الأب بولس الفغالي وآخرون، ط 1، الجامعة الأنطونية، 2003م.

5. بباوي، وليم وهبة، وآخرون، دائرة المعارف الكتابية، دار الثقافة.

6. بندكتوس السادس عشر، جوزيف راتسنجر، يسوع الناصري - الجزء الثاني: من دخول أورشليم إلى القيامة، نقله عن الألمانية: الدكتور نبيل خوري، ط1، المطبعة البولسية - جونيه، لبنان، 2014م.

7. تاريخ يوسيفوس، المكتبة العمومية، بيروت.

8. عبد الملك، الدكتور بطرس، وآخرون، قاموس الكتاب المقدس، ط 14، دار مكتبة العائلة، القاهرة، 2005م.

9. كينر، كريج س، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس - العهد الجديد، ج1، دار الثقافة، القاهرة، 2005م.

10. نجم، الأب ميشال، بالاشتراك مع فريق من الناقلين والمحررين، التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، العهد الجديد، 1 - ب، الإنجيل كما دونه متى 14 - 28، منشورات جامعة البلمند، 2005م.

الحواشي

(1) بباوي، وليم وهبة، وآخرون، دائرة المعارف الكتابية، دار الثقافة، 2/ 50.

(2) نجم، الأب ميشال، بالاشتراك مع فريق من الناقلين والمحررين، التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، العهد الجديد، 1 - ب، الإنجيل كما دونه متى 14 - 28، منشورات جامعة البلمند، 2005م، ص 406.

(3) تاريخ يوسيفوس، المكتبة العمومية، بيروت، ص 214.

(4) بندكتوس السادس عشر، جوزيف راتسنجر، يسوع الناصري - الجزء الثاني: من دخول أورشليم إلى القيامة، نقله عن الألمانية: الدكتور نبيل خوري، ط1، المطبعة البولسية - جونيه، لبنان، 2014م، ص 198 - 199.

(5) السابق ص 207.

(6) كينر، كريج س، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس - العهد الجديد، ج1، دار الثقافة، القاهرة، 2005م، ص 110.

(7) بباوي، وليم وهبة، وآخرون، دائرة المعارف الكتابية، دار الثقافة، 2/ 49.

(8) انظر: السابق نفسه.

(9) انظر: عبد الملك، الدكتور بطرس، وآخرون، قاموس الكتاب المقدس، ط 14، دار مكتبة العائلة، القاهرة، 2005م، ص 157.

(10) انظر: بندكتوس السادس عشر، ص 198 - 199.

(11) انظر: كينر، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس - العهد الجديد، ج1، ص 112.

(12) كينر، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس - العهد الجديد، ج1، ص 112.

(13) بباوي، وليم وهبة، وآخرون، دائرة المعارف الكتابية 2/ 209.

(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع فليراجع مقال "نقض مفهوم البنوة لله تعالى"، في هذا الرابط: "https://islamsyria.com/site/show_library/1281".

(15) كينر، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس - العهد الجديد، ج1، ص 113.

(16) كينر، الخلفية الحضارية للكتاب المقدس - العهد الجديد، ج1، ص 113.

(17) كينر، السابق نفسه.

(18) انظر: كينر، السابق، ص 107.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين