الرسالة الإسلاميَّة في مواجهة الفساد قديماً وحديثاً (6) والأخيرة

انتفاضتان مباركتان: 

ولقد تطوَّرت هذه الانتفاضة في بعض ديار الإسلام، فإذا هي تنتقل من نطاق الانفعال إلى مجالات الفعل، فتدفع بشباب الإسلام إلى استقبال قذائف الطغيان بالصدور العزلاء إلا من سلاح الإيمان وقد استعذبوا طعم الشهادة، حتى فقد الموت هيبته في قلوبهم، فهم يتسابقون إلى لقاء الله تعالى فرادى وجماعات لا يبالون أسقطوا على الموت أم يسقط الموت عليهم. فيثبتون لأعداء الإسلام أن جهودهم الضخمة والمتلاحقة خلال العشرات من السنين كانت أهزل وأعجز من أن تقضي على الذات الإسلاميَّة. 

ولقد أذهلت هؤلاء المفاجأة حتى راحوا ينادون بالويل والثبور، وينذرون أقوامهم بأن ثقافة الغرب قد انهزمت نهائياً أمام الوقفة الإسلاميَّة الجديدة. وما أحسبهم صدقوا قط كشأنهم في هذا النذير. لأن المعركة لم تكن من نوع الصراع على السلطة، كما يريدون أن يقنعوا السذج، بل كانت بين اتجاهين وثقافتين متباينتين، ثقافة علانية تريد تجريد المسلمين من كل قدرة على مقاومة الفساد والاستغلال، حتى يظلوا وما في أرضهم من الكنوز، مجرد مطية لتأمين متعة العدو والذياد عن بيضته. وأخرى تريد تثبيتهم على خط النبوَّة، محافظين على انتمائهم الأعلى إلى رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكونوا كما يحب لهم ربهم ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]. 

واني لأكتب هذه الكلمات وأمامي خطاب الفريق محمد ضياء الحق، الذي أذاعه من قاعة الجمعية الوطنية في الثاني عشر من ربيع الآخر عام 1399هـ ليزف إلى العالم الإسلامي بشرى عودة باكستان إلى النظام الرباني، الذي طالما تطلعت نحوه بل ما كانت لتوجد في خريطة العالم لولا تشبثها به، ومع ذلك تواطأ حكامها السابقون جميعاً على أن يسلخوه عنها، حتى قيَّض الله تعالى لها، هذا القائد الشجاع، فرد إليها هويتها السليبة، على الرغم من آلاف الدسائس التي يثيرها في طريقه أعداء الله تعالى في داخل باكستان وخارجها. 

وما أحكم كلمته وهو يركز على أهمية التعليم في تكوين الشخصية، إذ يقول: (إن الكتب والمناهج الدراسية عملت على إبعادنا عن محور الإسلام، فكان لزاماً علينا أن نعيد صياغة السياسة التعليمية على النحو الذي يحفظ لنا صبغته القدسية، ويكون هدفها الرئيسي إنشاء الجيل الجديد على أيديولوجية باكستان والإسلام(6). 

وقد شاء الله تعالى تباركت أسماؤه أن ترافق حركة البعث الإسلامي في باكستان قيام الكيان الإسلامي الجديد في إيران. الذي افتتح وجوده برد ذلك القطر العزيز إلى طريقه الطبيعي بالنسبة إلى قضية فلسطين والحضارة الزائفة، فأعلن سلفا قطع النفط الإيراني عن إسرائيل، ومقاطعتها دبلوماسياً، ثم جاءت البشريات تترى، وفي مقدمتها تحويل إيران إلى دولة مواجهة لإسرائيل، بعد أن لبثت ثلاثين سنة بمثابة الدعامة الكبرى التي تمدها بأسباب البقاء. ثم إعفاء المرأة الإيرانية من التجنيد في الجيش، وإلغاء التعليم المختلط. وهما من البدع التي فرضتها على إيران سياسة التحديث التي أريد بها القضاء على جذور الإسلام في الشعب الإيراني. على أن أبلغ ما قدمته الثورة الإسلاميَّة في إيران من توكيدها أن الإسلام هو الغالب، لأنه مظهر قوة الله تعالى التي لا تقهر، وأن العالم الإسلامي لا يصلح إلا بالقيادة الدينية المبرأة من كل تبعية لغير الله تعالى ورسوله. 

إنها المبشرات ثم الفتح: 

وبعد. فهل ثَمَّة من ريب في أننا تلقاء البشائر المرتقبة للمستقبل السعيد، الذي بشَّر الله تعالى به - على مر القرون - عباده التوابين في قوله الكريم: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: 55]. 

ولا جرم سيكون ذلك الفتح الموعود آية استجابته الخاصَّة لضراعة الأوابين، الذين يقول لهم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] ومظهر رحمته العامَّة للإنسانيَّة كلها، التي نهكها الضياع، وضاق بها الكون على رحبه، حتى باتت كالمخلوق الأسطوري، الذي انتفخ جسده على حساب قلبه، فغدا مهيب الظاهر، سقيم الباطن، يفتك بالضعفاء، وتفتك به الأدواء. 

وجدير بالأرض يومئذ أن تفرح وتبتهج، لأن ذلك إيذان بعودة النور المحمدي إليها، بعد أن أوشكت الغياهب تطمس فيها كل معالم الخير في البر والبحر. 

لقد ارتدَّ العالم إلى ما كان عليه من الفساد العام قبيل فجر الإسلام. وكشأنه بالأمس يتطلع لهفان إلى المنقذ الموعود، دون أن يعلم من أين يطل علينا. ولو هو قد ثاب قليلاً إلى هتاف فطرته لأيقن أن منقذ الأمس هو منقذ الغد، وألا سبيل إلى الشاطئ الأمين، إلا بالأوبة إلى قيادة الصادق الأمين، الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. 

وليس على الله تعالى بعزيز. وهو المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، أن يجعل ذلك الفرج المرجو هديته العظمى إلى المؤمنين، مع مشرق القرن الخامس عشر، الذي سنستقبل مطالعه في مثل هذه الأيام المباركة من محرم الحرام. 

أجل، إن في استعادة الإسلام مكانه الطبيعي من قيادة الفكر العالمي، بعد تلك الغيبة الطويلة عن الميدان الذي طال إليه حنينه، لمثاراً للاستغراب العميق عند اليائسين من رحمة الله، بيد أنَّه سيظل حق اليقين في قلوب الذين ينظرون إلى الأحداث بنور ربهم، ويستشرفون صور الغد الحبيب في حكمة نبيهم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء) (7). 

وأي غربة أكبر من أن يقوم بين أبناء المسلمين من يؤثر حكم الجاهلية على شريعة الله، ويحاول خنق كل صوت يرتفع بالدعوة إلى الله، في حين يرى بعينيه إلى أنظمة البشر - في كل مكان - تعلن إفلاسها، وتلعن كل تجربة منها سابقة ولاحقة!. 

﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ٤١﴾

وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم  

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، الدوحة، محرم 1400هـ 

الحلقة السابقة هـــنا

***********  

الهوامش: 

(1) - في ص 27 من العدد 433 من مجلة المجتمع ما يلي (110 آلاف امرأة في بريطانيا خضعن العام الماضي لعمليات اجهاض قانوني وغير قانوني. وفي بريطانيا 600ألف طفل لا آباء لهم. 

(2) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 125 /ج1  

(3) - المصدر نفسه ص26 ج 1.  

(4) - أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي /15/  

(5) - من حديث طويل رواه الإمام أحمد ج 2 ص 199 عن عبد الله بن عمرو  

(6) - نقلناه بتصرف بسبب سوء الترجمة /25/. 

(7) - رواه مسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين