السيرة بلغة الحب والشعر(5)

فصل: في الرمز

اعتاد الكثيرون من شعراء الحب والوجد أن يرمزوا بالكأس والخمرة لمعانٍ وأن يتحدثوا بلغة التأنيث إشارة إلى المحبوب ولو كان ذكراً، وقد سرى هذا إلى المحبين الإسلاميين من شعراء الوجد وثارت حول ذلك معارك فكم أنكر فقيه على شاعر وما أكثر ما أنكر قلب الحكيم شطحات الشعر، ومع أننا نميل إلى أن تبقى هذه الأمور عند حدود، إلا أننا ندرك أنَّ لهذه الاتجاهات أصلاً في زمن النبوة، فقد ذكر ابن هشام القصيدة التي أرسل بها كعب بن زهير إلى أخيه بجير عندما أسلم وفيها: سقاك بها المأمون كأساً روية = فأنهلك المأمون منها وعلكا

وفي رواية:

شربت مع المأمون كأساً روية = فأنهلك المأمون منها وعلكا

قال ابن هشام:

(وبعثت بها إلى بجير فلا أتت بجيراً كره أن يكتمها رسول الله فأنشده إياها فقال رسول الله وما سمع (سقاك بها المأمون) صدق وإنه لكذوب أنا المأمون)

أقول فههنا استعمل كعب كلمة الكأس وسقياها ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنكار على ذلك؛ وعندما أصابت زيد الخير الحمى وعاده الناس قال شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه:

فليت اللواتي عدنني لم يعدني = وليت اللواتي غبن عني عُوَّدي

صلى الله عليه وآله وسلم

فهذا صحابي يستعمل لغة التأنيث إشارة إلى الذكور.

وهذا موضوع توسَّع به المتوسعون وضيَّق به المتزمِّتون ولقد أشار إقبال إلى مثل هذا رامزاً ومعاكساً الفقهاء:

أفتني أيها الفقيه وقل لي = خمرة شربها علينا حلال

هل يجوز شربها في عرفات

إنه يريد شراب المحبة.

ولكن كم من الناس يدركون مثل هذا؟

إن عمر الخيام لم يشرب خمراً قط فيما نعلم وكلُّ كلامه عن الخمرة إنما المراد به الرمز ولكن الغربيين تر جموه على ظاهره ونحن نقلناه عنهم فكان من آثار ذلك ما انطبع في أذهان الكثيرين عن عمر الخيام رحمه الله تعالى.

فصل: مهمة العلماء التصحيح الرفيق لا الرفض المطلق اللغة الحب والشعر

أخرج البخاري عن الرُّبيع بنت معوّذ قالت: جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل حين بنى عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك منى فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندين من قتل من آبائي يوم بدر اذ قالت إحداهن:

(وفينا نبي يعلم ما في غد) فقال: (دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين).

من هذا الحديث ندرك أن أدب العالم إذا حضر جلسة سماع ذكر فيه خطأ أن يصحح الخطأ دون أن يغير جو المناسبة، وقد كان شيخنا الشيخ محمد الحامد رحمه الله يحضر أحياناً جلسات السماع والانشاد ولكنه لا يسكت على خاطئ ولا على خطأ، وكثيراً ما كان يطلب من المنشد أن يستبدل كلمة بكلمة، وكثيراً ما كان يطلب منه أن يغير بيتاً أو عجز بيت بما يخرج البيت عن لَبْس أو توهم حرصاً عقيدة الناس وسلامة تصوراتهم.

فصل: في موضوع إحياء المناسبات

في عصرنا خمدت جذوة الكثير من المعاني سواء في ذلك معاني الجهاد أو معاني الفرار إلى الله سبحانه، ومن ثَمَّ فقد اعتمدت الحركة الإسلامية الحديثة مبدأ إحياء المناسبات التاريخية التحريك عواطف الخير عند المسلمين.

ففي /۱۷/ رمضان يحتفلون بيوم بدر لتذكير المسلمين بهذه المعركة ولتحريك عواطف الجهاد، وفي المحرم يحتفلون بالهجرة لتذكير المسلمين بهذه الصفحات من السيرة ولتحريك عواطف المسلمين نحو معرفة أن حبّ الإسلام فوق حبّ الأوطان، وفي شهر ربيع الأول يحتفلون للتذكير بشمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وميلاده وآثار الرسالة إلى غير ذلك.

ولم تنظر الحركة الإسلامية إلى هذا الموضوع إلا من زاوية احتياج المسلمين إلى مثل ذلك فهو كالدواء وهو جزء من حركة البعث الإسلامي وتحاول الحركة الإسلامية أن تتجنب في مثل هذا الموضوع ما يؤخذ على بعض الجهات فيما تقوله أو تعتمده في مثل هذه المناسبات.

وكثيراً ما كان لهذه الأمور بركتها في الدعوة والعمل والحركة.

وإذا كان هناك من أصل لمثل هذا الاتجاه فقد يكون في مثل اعتماد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوم عاشوراء، وفي مثل قوله عليه الصلاة والسلام عن يوم الاثنين: (ذاك يوم فيه ولدت).

ولكن الحركة الإسلامية لا تحب أن تدخل في جدل في هذا الموضوع فالأصل في الأشياء الإباحة وإحياء هذه المناسبات بالكلمة العليمة والتذكير الحكيم والشعر السليم من الأخطاء مما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين، فهو لا يخلو عن كونه اجتماعاً على خير والاجتماع على الخير مشروع.

إنّ أحداً لا ينكر أن تدعو جهة من الناس لسماع صفحة من كتاب أو لقراءة شيء من العلم أو لليلة شعرية فذلك كذلك.

فصل: في معركة المولد

مما استحدث خلال العصور الاحتفال بيوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتوضع حول هذا الموضوع عادات تختلف باختلاف البلدان، وقد تحدَّث ابن الحاج في مدخله عن كثير مما أنكره من عادات توضعت حول المولد، ووجدت بسبب من ذلك وبسبب من غيره ردود فعل كثيرة حول هذا الموضوع فمن محّرم ومن مدافع، وقد رأينا أنَّ لابن تيمية رحمه الله رأياً في غاية الانصاف فهو يرى أنَّ أصل الاجتماع على المولد مما لم يفعله السلف ولكن الاجتماع على ذلك يحقق مقاصد مشروعة.

والذي نقوله: أن يعتمد شهر المولد كمناسبة يذكِّر بها المسلمون بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشمائله فذلك لا حرج وأن يعتمد شهر المولد كشهر تُهيَّج فيه عواطف المحبَّة نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك لا حرج فيه، وأن يعتمد شهر المولد كشهر يكثر فيه الحديث عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك لا حرج فيه.

وأن ما ألف في بعض الجهات أن يكون الاجتماع على محاضرة وشعر إلقاء أو إنشاد في مسجد أو في بيت بمناسبة شهر المولد فذلك مما لا أرى حرجاً فيه على شرط أن يكون المعنى الذي يقال صحيحاً.

إن أصل الاجتماع على صفحة من السيرة أو على قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جائز ونرجو أن يكون أهله مأجورين فأن يخصص للسيرة شهر يتحدث عنها فيه بلغة الشعر والحب فلا حرج.

ألا ترى لو أن مدرسة فيها طلاب خصَّصت لكل نوع من أنواع الثقافة شهراً بعينه فهل هي آثمة؟ ما نظن أن الأمر يخرج عن ذلك.

فصل: في الحذر من أخطاء المحبين والشعراء

إذا كانت نشأة لغة الحب والشعر بالنسبة للسيرة النبوية أشخاصها وأحداثها عادياً بل شيئاً مرغوباً به ومطلوباً حدوثه فإنه قد حدث خلال العصور أن وجد شعر فيه أخطاء شرعية ووجدت لغة ادَّعت الحب وخرجت عن الشرع ذلك ينبغي أن يصفَّى ويحرر ويحذر ولكن علينا ألا ننسى أن لغة الشعر فيها مجاز وكناية واستعارة وأنَّ علينا أن نضع هذا في حسابنا ونحن نسير في عملية التصفية والتحقيق.

فصل: في الأسباب الحاملة على كتابة هذه الفصول وماذا نريده فيها

إن عصرنا عصر جفَّت به العواطف الراقية وقامت للعواطف الأخرى أسواق وأسواق ومن جملتها أسواق الغناء، وللغناء تأثير في تكوين النفوس لا ينكره الا خاطئ، واذا كان الغناء الشهواني هو الذي يغلب على الإذاعات والحفلات وتتلقَّاه الأنفس فإن آثار ذلك خطيرة، وخلال التاريخ الإسلامي حاول الحكماء أن يوجدوا البديل، فكان البديل هو الإنشاد المتميز في الأسلوب والمعنى علياً على الفسوق، وأصبح الإنشاد طريقاً لمن يُحب الصوت الحسن من أهل التقوى، وككُلّ شيء لا يضبطه العلم ويرافقه التصحيح الدائم توضع حول السماع من الخطأ والبدع الكثير فقامت ردود فعل علمية عنيفة ضده وضد أهله اختلطت الأوراق وأصبحت تحتاج إلى فرز.

نحن بحاجة إلى شعر يحرك كل العواطف الخيِّرة وبحاجة إلى إنشاد يهيِّج عواطف الوجد والمحبة والخير والجهاد وبحاجة إلى أن ينضبط ذلك كله بضوابط لا تخرج هذا الأمر عن حدِّه.

ومن هذه الضوابط ألا يصبح مثل هذا شغلنا الشاغل بل أن يبقى مثل هذا كالملح بالنسبة للطعام. وأن يبقى سماعنا الرئيسي للقرآن، ومن تأمل في حياة الأصحاب، تعرف مثل هذا، وفي الحديث الذي ذكره ابن كثير وعزاه إلى ابن مردويه وإلى النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع البقرة يقرؤها فإنَّ الشيطان ينفر من البيت تُقرأ فيه سورة البقرة وأنَّ أصغر البيوت الصفر من كتاب الله)

وأخيراً:

إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغة العقل مطلوب ابتداء وأن الإيمان العقلي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلوب ابتداءً وانتهاءً، ولكنه لا يكفي فلابدَّ من إيمان عاطفي ولابدَّ من حب ومتى وجد الحب فقد وجد الشعر ومن أجل التذكير بهذه المعاني كتبنا هذه الفصول القصيرة للتذكير بهذا الجانب.

فكتبنا فصلاً عن محل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الإيمان وكتبنا فصلاً عن الشعر في الإسلام وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتبنا فصلاً عن الحديث العقلي والحديث العاطفي وأن المسلم عقلاني في قضية الإيمان ولكنه عاطفي كذلك، وأن الدعوة خطاب للعقل وللعاطفة وحديث عنها.

كما كتبنا فصلاً عن نماذج من لغة الحب والشعر.

والحديث عن لغة الحب والشعر جرنا إلى الحديث عن الواقع وكيف أنَّ العاطفة فاترة والجهل كثير وهذا يقتضي علاجاً، وهذا جرنا إلى الحديث عن إحياء المناسبات وضرورتها، وهذا جرنا إلى الكلام عن المولد وما رافقه والحكم الشرعي فيه، ولقد كتبنا هذا البحث المختصر في زحمة من الاعمال ففاتنا فيه الكثير مما نحرص عليه فيه ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية محرم 1400هـ.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين