ورد إلي سؤال من قبل صاحبي الأستاذ حسن محمود المقيم في مانشستر، بالمملكة المتحدة (وله عناية بالغة بالتدبر في كتاب الله) عن القول: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" من قائله: يوسف عليه السلام أم امرأة العزيز؟

الجواب:

قال الله تعالى: "وقال الملك ائتوني به، فلما جاءه الرسول قال ارجع إلىٰ ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، إن ربي بكيدهن عليم، قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه، قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، ذٰلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم". سورة يوسف الآيات 50-53.

قلت: اختلف العلماء في ذلك إلى قولين:

1- ذهب عامة المفسرين سلفا وخلفا إلى أن قائل القول المسؤول عنه يوسف عليه السلام، يقول الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: "يعني بقوله "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، هذا الفعل الذي فعلته، من ردي رسول الملك إليه، وتركي إجابته والخروج إليه، ومسألتي إياه أن يسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن عن شأنهن إذ قطعن أيديهن، إنما فعلته ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب، يقول: لم أركب منها فاحشة في حال غيبته عني. وإذا لم يركب ذلك بمغيبه، فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيدا من ركوبه"، ثم روى الطبري تصديق هذا القول عن جماعة.

2- وذهب بعض العلماء إلى أن قائلته امرأة العزيز، وهذا الثاني هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وأفرد له تصنيفا، يقول في فتاواه: "... فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن"، ويقول: "وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه بل الأدلة تدل على نقيضه".

وانتصر لابن تيمية صاحباه ابن القيم وابن كثير، وأكبر دليل لهم أن هذا القول متصل بـ "قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين" فناسب أن يكون قول المرأة.

الرد على هذا القول:

سيأتي الرد التفصيلي على هذا القول ضمن وجوه الترجيح، وإنما أقتصر هنا على بيان منشأ خطئهم، وذلك اتصال هذا القول بقول امرأة العزيز، فليعلم أن القرآن الكريم كتاب أُمِر الناس بالتدبر فيه، لأنه على مذهب العرب الأوائل في الإيجاز والإجمال، أخر يوسف عليه السلام خروج نفسه من السجن بسؤاله التتفتيش عن أمر النسوة اللاتي اتهمنه، وهذا خلاف المعهود من المسجونين فإنهم أحرص ما يكونون على الخلاص، فعلَّل أمره الذي لم يجر على الظاهر بقوله "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، وإنما جاء التعليل عقب قول المرأة ليكون واضحا في الكشف عن المقصود.

قال الإمام العبقري العلامة حميد الدين الفراهي: "... فمن الإيجاز حذف الألفاظ التي لا حاجة إليها إذا تُدُبِّرت، وههنا أمثلة، منها: "فأرسلون" فأرسله فلما جاء إلى يوسف قال له "... وفيه يعصرون"، فلما رجع الرسول من عند يوسف وكلم الملك "وقال الملك ائتوني... بكيدهن عليم"، فلما سأل الرسول الملك خاطب الملك النسوة و"قال ما خطبكن... وإنه لمن الصادقين"، فرجع الرسول إلى يوسف ونبأه بما شهدت به النسوة، فقال: فعلت ذلك ليعلم العزيز "أني لم أخنه بالغيب".

إشكال على الرد:

قال صاحبي: مما ألفناه في السورة أنه كلما اختلف القائل فصل القول الجديد بالواو، ولم ترد الواو هنا.

قلت: السبب في ذلك أن قوله "ذلك ليعلم" ليس منفصلا، بل متصل بقوله "قال ارجع إلى ربك..."، وتخلل قول الملك وقول النسوة وامرأة العزيز بيانا لأمر التفتيش، ومثل هذا التخلل تكثر نظائره في كتاب الله تعالى.

القول الراجح:

والذي أرجحه هو القول الأول للوجوه الآتية:

الأول: أن موضوع السورة هو بيان أن الفلاح مداره على التقوى والصبر، قال تعالى في السورة نفسها على لسان يوسف عليه السلام: "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين"، فلو أنه أجاب داعي الملك وأسرع الخروج من السجن لما اندفعت التهمة عنه، مع أن من لازم تقواه أن يظهر للملك وغيره جليا أنه لم يكن خائنا، فاحتمل يوسف عليه السلام التأخر عن الخروج حتى تبرأ ساحته وتستبين طهارته، وذلك مثال رفيع في الصبر لا يؤتاه إلا ذو حظ عظيم، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي".

والثاني: أن امرأة العزيز لم تأل جهدا في الخيانة، بل واستعانت بالنسوة على الخيانة، وإن ما حصل من عدم الفاحشة لا يرجع إليها وإلى النساء، وإنما مرده إلى تقوى يوسف عليه السلام، فأنى لها أن تدعي عدم الخيانة وتكذب هذا الكذب الصريح أمام الملك ولا سيما بعد أن افتضحت وافتضحت صواحبها". إن الذي لم يخن هو يوسف عليه السلام وهو الأحق بأن يصدر منه هذا الكلام.

والثالث: أنه أعقب قوله "ليعلم أني لم أخنه بالغيب" قوله "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" وإن هذا الاستشعار العظيم لسنة الله لا يتفق مع دينها وخلقها وسلوكها، وإنما يناسب يوسف عليه السلام ومن كان على هديه من عباد الله المصطفين الأخيار.

والرابع: أن يوسف عليه السلام لما قال "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" خاف أن يكون ذلك منه تزكية لنفسه، فأراد أن يتواضع لله التواضع الصادق ويهضم نفسه فلا يكون لها مزكيا ولا معجبا بحالها في الأمانة ولا معتزا بها مفتخرا فقال: "وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم"، وتذكَّر مغفرة الله ورحمته إن حصل شيء من ذلك، وهذا كلام رفيع جدا لا يناسب إلا الصالحين الأتقياء، وأنى لامرأة العزيز أن ترتفع إلى هذا المقام العالي.

والخامس: أن في هذا القول إيمانا عظيما بالله، ومعرفة به، وتوسلا واستعانة به، وتوكلا عليه، ولم يسبق في السورة شيء يدل على إيمان المرأة، بل إن ما ورد فيها يناقض ذلك أصرح المناقضة.

وكان شيخنا المفسر شهباز الإصلاحي رحمه الله يسترعي انتباهنا إلى هذا المعنى، وكان يرفع من شأن يوسف عليه السلام قائلا: إن قوله هذا جمع بين التقوى والتواضع والخشية والاستعانة جمعا عجيبا، وإن شأن هذه المرأة لأحقر من أن تنطق بعشر معشار هذا القول.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين