هل الجنَّة التي هبط منها آدم هي جنَّة الخلد أم بستان في الأرض؟

قوله جلَّ ثناؤه:﴿وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ٣٥ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ٣٦ فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ٣٧﴾[البقرة:35-27].

فقد اختلف أهل التأويل في المراد من الجنَّة: هل هي جنَّة الخلد أو جنَّة أخرى؟

فقالت طائفة: أسكن الله تعالى آدم جنَّة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة. واحتجُّوا للقول: بأنها جنَّة الخلد وأنَّها جنَّة المأوى، بما ذكره ابن القيم مرويًّا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في قوله: "إنَّ الله تعالى لما أخرج آدم من الجنَّة زوَّده من ثمار الجنَّة، وعلَّمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنَّة غير أن هذه تتغيَّر وتلك لا تتغيَّر"[رواه الحاكم في تواريخ المتقدِّمين (2/543) وصحح إسناده ووافقه الذهبي. والطبري في تفسيره (1/393) وقال الشيخ شاكر: هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس].

واحتجُّوا أيضاً بما روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 37]. قال: يا رب، ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب ألم تسبق رحمتك غضبتك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى، قال: فهو قول الله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 37].[ رواه الحاكم في تواريخ المتقدمين (2/545) وصحح إسناده ووافقه الذهبي. والطبري في تفسيره (1/542)].

وقالت طائفة أخرى:

إنَّ الجنَّة التي أسكنها آدم ليست هي جنَّة الخلد، وبهذا القول قال منذر بن سعيد مقرِّراً أن هذا القول تكثر الدلائل الشاهدة له، والموجبة للقول به.

وعن أبي القاسم الراغب في تفسيره حاكياً عن بعض المتكلمين أن الجنَّة كانت بستاناً جعله الله تعالى لآدم وزوجته امتحاناً وابتلاءً، ولم تكن جنَّة المأوى.

وهذا القول هو ما ذهب إليه أبو القاسم البلخي، وأبو مسلم الأصفهاني، فقد قالا: إن هذه الجنَّة في الأرض، وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، وضربا لذلك مثلاً قول الله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61]. قالا: وهذا قول تكثر الدلائل الموجبة للقول به، وقد أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله، أنَّ جنَّة الخلد إنما يكون الدخول إليها يوم القيامة، ولمَّا يأت زمن دخولها، ومع ذلك وصفها الله تعالى في كتابه بصفاتها، ومحال أن يصف الله تعالى شيئاً بصفته، ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفه بها، وقد وجدنا ربنا تعالى وعز وصف الجنَّة التي أعدَّت للمتقين بأنها دار المقامة، فمن دخلها أقام بها، وآدم لم يقم بالجنَّة التي دخلها، ثم وصفها سبحانه بأنها جنَّة الخلد، وآدم لم يخلد فيها، كما وصفها جل ثناؤه بأنها دار ثواب وجزاء، وليست دار أمر ونهي وتكليف، كما وصفها تعالى وعزَّ بأنها دار سلامة مطلقة، لا دار ابتلاء وامتحان، وقد ابتلى فيها آدم بأعظم الابتلاء، وسمَّاها سبحانه دار السلام، ولم يسلم فيها الأبوان، كما سمَّاها دار القرار، ولم يستقرَّا فيها، وقال في داخلهما:﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 48]. وقد أخرج الأبوان منها، وأخبر سبحانه أنه لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد سمع فيها أبونا آدم لغو إبليس وإثمه.

فإذا اجتمع ذلك كله بعضه إلى بعض، وتأمَّله المنصف الذي لاح له علم الدليل فشمَّر إليه، وربأ بنفسه عن حضيض التقليد، تبيَّن له وجه الصواب في أنَّ الجنَّة التي أسكنها آدم وزوجه ليست جنَّة الخلد، ولكنها بستان في الأرض.

المصدر: مع القرآن، للشيخ أحمد حسن الباقوري، ص 117- 119.

التعليق:

علق الأخ الكريم فضيلة الشيخ إبراهيم منصور حفظه الله على ما ذكره الشيخ الباقوري رحمه الله تعالى:

لم يأت الباقوري رحمه الله تعالى بجديد.

كل ما في الأمر أنه قرَّر مذهب المعتزلة دون أن يسميهم، مما سهّل عليه تبنِّيَ مذهبهم على أنه قول بعض أهل العلم، دون أن يتنبه العامة إلى أنه تبنى مذهب المعتزلة.

قال النسفي في تفسير آية البقرة: (وَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ) قال: هي جنَّة الخلد التي وُعِدت المتقين، للنقل المشهور، واللام للتعريف. وقالت المعتزلة: كان بستانًا باليمن، لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها. قلنا: لا يخرج منها من دخلها جزاءً. اهـ

قلتُ: وقد نظرتُ في تراجم العلماء الذين قرَّر الباقوري قولهم وتبنَّاه، فوجدْتُهم جميعا من المعتزلة، بل من أئمتهم.

قال الزركلي في (الأعلام) في ترجمة منذر بن سعيد: قال ابن الفرضي: كان بصيرًا بالجدل، منحرفًا إلى مذهب أصحاب الكلام. اهـ

وقال في ترجمة أبي مسلم الأصبهاني: معتزلي من كبار الكتاب. اهـ

وقال في ترجمة أبي القاسم البلخي: عبد الله بن أحمد بن محمود، من بني كعب، البلخي الخراساني، أبو القاسم، أحد أئمة المعتزلة، كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية. اهـ

فلا جديد في كلام الباقوري.

ولكن فيه ثغرة علميَّة يَحسن التنبيه إليها، وهي أنَّ أهل السنَّة حشدوا أدلة متظاهرة على ما ذهبوا إليه، من الكتاب والسنَّة، لم يذكر الباقوري دليلا واحدًا منها.

فكان عليه أن يذكرها ويجيب عليها إذ لم يرتضِها.

كما أنَّ أهل السنَّة أجابوا على كل شبهات المعتزلة، ولم يذكر الباقوري جوابًا واحدًا منها.

وكان عليه أن يجيب على نواقض أدلة أبي القاسم البلخي، وأبي مسلم الأصفهاني، التي ارتضاها.

فكلامه انتقائي، غفر الله له، وهو منهج غير مرضيٍّ في منطق الإنصاف العلمي.

والله أعلم.

انظر: رد الشيخ إبراهيم منصور على الدكتور زغلول نجار هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين