نبي الرحمة (18)

معاهدة مع اليهود:

بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتنظيم علاقاته بغير المسلمين، لتوفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء، فسن قوانين لم تعهد في ذلك العالم المليء بالتعصب والعرقية.

وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود، كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية خصومة بعد، فعقد معهم صلى الله عليه وسلم معاهدة قرر لهم فيها النصح والخير، وترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام. وكانت بنود المعاهدة:

١-إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود.

٢-وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.

٣-وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

٤-وإن بينهم النصح والنصحية، والبر دون الإثم.

٥-وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.

٦-وإن النصر للمظلوم.

٧-وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

٨-وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

٩-وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

١٠-وإنه لا تُجَارُ قريش ولا من نصرها.

١١-وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب . . على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قِبَلَهُم.

١٢-وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.

بإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة،. ورئيسها- إن صح هذ التعبير- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين, وبذلك أصبحت المدينة عاصمة حقيقية للإسلام.

الكفاح الدامي:

*استفزازات قريش واتصالهم بعبد الله بن أبيّ: إن ما قام به كفار مكة من التنكيلات والويلات ضد المسلمين في مكة، ثم ما أتوا به من الجرائم عند الهجرة، إلا أنهم لم يفيقوا من غيهم ولا امتنعوا عن عدوانهم بعدها، بل زادهم غيظاً أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدنية، فكتبوا إلى عبد الله بن أبي سلول وكان إذ ذاك مشركاً بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة - وكانوا قد اتفقوا عليه، وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لولا أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، وآمنوا به-. كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين، يقولون لهم في كلمات باتة: "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم".

قال عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيهم، فقال:(لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم)، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفرقوا.

امتنع عبد الله بن أبي عن القتال، لما رأى خَوَراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك، ولكن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تطفئ نار شرهم حيناً بعد حين.

*إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام: انطلق سعد بن معاذ إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليكم منه، طريقك على أهل المدينة.

*قريش تهدد المهاجرين: فكرت قريش بالقضاء على المسلمين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وتأكد لدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما جعله لا يبيت إلا ساهراً. عن عائشة قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ المدينة ليلة فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: (من هذا؟) قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جاء بك؟) فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام. ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي، بل كان ذلك أمراً مستمراً. عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحرس ليلاً حتى نزل:{وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه من القبة، فقال:(يا أيها الناس، انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل). وكان الخطر على المسلمين كافة. عن أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولايصبحون إلا فيه.

*الإذن بالقتال: في هذه الظروف التي كانت تهدد المسلمين بالمدينة، أنزل الله الإذن بالقتال للمسلمين ولم يفرضه عليهم، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:٣٩]. وأنزل معه آيات بين لهم فيها أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل وإقامة شعائر الله {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[الحج:٤١]. وكان من الحكمة إزاء هذه الظروف أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية المؤدية من مكة إلى الشام، واختار صلى الله عليه وسلم لبسط هذه السيطرة خطتين:

الأولى: عقد معاهدات الحلف أو عدم الإعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وعقد معاهدة مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاثة مراحل من المدينة، وعقد معاهدات أخرى أثناء دورياته العسكرية.

الثانية: إرسال البعوث واحدة تلو الآخرى إلى هذا الطريق.

*الغزوات والسرايا قبل بدر: وبدأت التحركات العسكرية فعلاً وكانت أشبه بالدوريات الاستطلاعية، المطلوب منها الاستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة. وعقد المعاهدات مع القبائل التي تسكن على هذه الطرق. وإشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية بأن المسلمين أقوياء. وإنذار قريش عُقبَى طيشها، ولتشعر بالخطر على اقتصادها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في دارهم، وعن الصد عن سبيل الله، حتى يصير المسلمون أحراراً في إبلاغ رسالة الله في الجزيرة. وفيما يلى أحوال هذه السرايا بالإيجاز:

١-سرية سيف البحر: رمضان ١ هـ. أول لواء عقده صلى الله عليه وسلم لحمزة بهذه السرية، وكان أبيض، حمله أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي.

بعث حمزة في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، يعترض عير قريش قادمة من الشام، فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص. فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي ابن عمرو الجهني- كان حليفاً للفريقين- بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حجز بينهم، فلم يقتتلوا.

٢-سرية رابغ: شوال ١ هـ. بعث صلى الله عليه وآله وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكباً من المهاجرين، فلقي أبا سفيان- وهو في مائتين- على بطن رابغ، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال.

وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة بن غزوان المازني، وكانا مسلمين، خرجا مع الكفار، ليصلا إلى المسلمين. وكان اللواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة بن المطلب.

٣-سرية الخرّار: ذي القعدة ١هـ. بعث صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكباً، يعترضون عير قريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس، كان اللواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو.

٤- غزوة الأبواء أو ودان: صفر ٢هـ. استخلف صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن عبادة على المدينة، وخرج في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة، يعترض عيراً لقريش حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً. وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري، وكان سيد بني ضمرة، ونص المعاهدة:(هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بلّ بحر صوفة، وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه) وهذه أول غزوة غزاها صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض، وحمله حمزة بن عبد المطلب.

٥- غزوة بواط: ربيع الأول ٢ هـ. خرج صلى الله عليه وآله وسلم في مائتين من أصحابه، يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمئة بعير، فبلغ بواطاً من ناحية رضوى ولم يلق كيداً. واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه.

٦- غزوة سفوان: ربيع الأول ٢ هـ. أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي فخرج صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين صحابياً لمطاردته، حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي طالب.

٧- غزوة ذي العشيرة: جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة ٢ هـ. خرج صلى الله عليه وآله وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين من المهاجرين، ولم يكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يعتقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام, فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سبباً لغزوة بدر الكبرى. واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

وفيها عقد صلى الله عليه وآله وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بنى مدلج وحلفائهم من بنى ضمرة.

8- سرية نخلة: رجب٢هـ .بعث صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، وكان صلى الله عليه وآله وسلم كتب له كتاباً وأمره ألاينظر فيه حتى يسير يومين، ففعل، فإذا فيه:(إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، وفي الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا عنهم، وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، فأجمعوا على اللقاء فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام. وأنكر صلى الله عليه وآله وسلم ما فعلوه، وقال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، ووقف التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لإتهام المسلمين بأنهم أحلوا ما حرم الله، حتى نزل الوحي حاسما, وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون.{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القتل}[البقرة: ٢١٧].وبعد ذلك أطلق صلى الله عليه وآله وسلم سراح الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه.

بعد سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين على تجارتهم، وعلموا أن المدينة تتربص وتترقب حركتهم التجارية، والمسلمون يستطيعون أن يزحفوا ويقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وبدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة- كما فعلت جُهَيْنَةَ وبَنُو ضَمْرَةَ - ازدادوا حقداً وغيظاً، وصمم كبراؤهم على ما كانوا يُوعِدون ويُهدِّدون من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر. أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شعبان٢هـ:{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}[البقرة:١٩٠-١٩٣]. ثم أنزل الله آيات يعلمهم فيها طريقة القتال، ويبين لهم بعض أحكامه:{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:٤-٧] ثم ذم الله الذين رجفت أفئدتهم حين سمعوا الأمر بالقتال:{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَاالْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[محمد:٢٠] وإيجاب القتال والحض عليه، والاستعداد له هو ما كانت تقتضيه الأحوال, فالظروف تقتضى عراكاً دامياً بين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على المشركين، آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر. وآيات الأمر بالقتال تدل على قرب العراك الدامي، وأن النصر فيه للمسلمين، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأسارى والإثخان في الأرض حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين في النهاية.ولكن تُرك كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله. وفي هذه الأيام - شعبان ٢هـ - أمر الله بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين دخلوا صفوف المسلمين لإثارة البلبلة، انكشفوا ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن أهل الغدر والخيانة. ولعل في تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد ينتهي بتحرير المسلمين هذه القبلة، إذ من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم، فلابد من تخليصها إن كانوا على الحق. وبهذه الأوامر والإشارات اشتد شوق المسلمين إلى الجهاد، ولقاء العدو في معركة فاصلة.

يتبع ..........

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة ( الرحيق المختوم )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين