وما أنزل على الملكين ببابل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عباده المرسلين، لا سيما عبده محمدًا خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فيقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].

لعل هذه الآية من أكثر الآيات التي تشغل البال وتثير الكثير من الأسئلة، منها مثلا:

هل هذان الملَكان اللذان تتحدث عنهما الآية الكريمة من هذا الخلق السماوي النوراني أم من سكان الأرض؟

وما الذي أنزل عليهما؟ ومن الذي نزل به إذا كانا من سكان السماء؟

وهل الشياطين هم الذين كانوا يعلمون الناس السحر؟ أم الملكان؟

وهل تجسد هذان الملَكان واختلطا بالناس ليعلماهم السحر؟

وإذا كان السحر فتنة وكفرًا فلماذا يعلمان الناس هذا الكفر؟

***

بداية تنبغي ملاحظة أن ذكر سليمان وبابل في الآية الكريمة يشير إلى فترة السبي البابلي التي كانت بعد وفاة سليمان عليه السلام، وعليه فإن ينبغي حمل لفظة (الملكين) على التقارب اللغوي بين اللغات الثلاثة: البابلية، والعبرية، والعربية، فهي جميعا من اللغات العروبية أو السامية، ويعني لفظ (الملَك) في هذه اللغات (الرسول)، وأما إطلاق هذا اللفظ على ذلك الخلق النوراني السماوي؛ فلأنهم رسل الله، وكان يعبر بهذا اللفظ عنهم، ثم صار اللفظ عَلَمًا عليهم، ومما يؤيد ذلك قول الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1].

وقد سمى الله تعالى الملائكة رسلا مطلقا، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود: 69]، وقوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31]. وغيرها من الآيات كثير.

وقال لبيد :

وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ * بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ

وقال أبو ذؤيب الهذلي :

أَلِكْني إليها وخَيْرُ الرَّسُو * لِ أَعْلَمُهم بنواحي الخَبَرْ

فـ (ألكني إليها) يعني كن رسولي إليها، والألوك الرسالة، والملَك أصلها (مَلْأَك) ثم سُهِّلَت الهمزة وحذفت.

فهل كان الملكان اللذان تتحدث عنهما الآية من ملائكة السماء؟ أم كانا رسولين من البشر؟

لعل في قول الله تعالى: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ) يرجح أنهما رسولان من البشر، وربما كانا من رسل بني إسرائيل في فترة السبي البابلي، فإذا كان ذلك صحيحا فالذي أنزل عليهما وحي أوحاه الله إليهما وليس السحر، وما يؤكد أنه وحي وليس سحرًا أن الآية الكريمة ميزت بينه وبين السحر، فقال الله تعالى: (وَلَٰكِنّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ).

ويبقى السؤال: لماذا يعلم الشياطين الناس هذا الوحي؟ وكيف كان هذا الوحي فتنة ويستطيع من يستخدمه أن يفرق بين المرء وزوجه، إلى آخر ما ذكرته الآية الكريمة؟

لعل هذا الوحي كان كلمات منطوقة لها قوة خاصة، كاسم الله الأعظم، وكالذي قاله الذي عنده علم من الكتاب فأحضر عرش بلقيس أمام سليمان عليه السلام، وربما كان ذلك كلمات مرسومة كالذي يتحدث فيه بعض الناس من خواص الحروف، وأنها إذا رسمت بعدد معلوم وكيفية معلومة كان لها من التأثير الخفي، ولذا كان هذان الملَكان يحذران الناس؛ لأنه فتنة لهم إذا استخدموه في الشر، فقامت الشياطين بالخلط بين السحر وهذا الوحي الإلهي وتعلم الناس منهم السحر ظنًّا منهم أنه من هذا الوحي الإلهي، ومما يؤيد ذلك ما رواه معاوية بن الحكم السلمي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا قوم حديثو عهد بجاهلية، وقد جاءنا الله بالإسلام، ومنا رجال يأتون الكهان، قال: "فلا تأتهم". قال: قلت: ومنا رجال يتطيرون. قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم". قلت: ومنا رجال يَخُطُّون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك".

وقد يكون أحد الملكين (الرسولين) المذكورين في الآية الكريمة كان يعلمهم الخط لدلالة الحديث، والآخر يعلمهم كلاما منطوقا، ومعلوم أن السحرة والمنجمين يستخدمون ألفاظًا مبهمة ويكتبون حروفا مبهمة، تكون علامة بينهم وبين الشياطين. والله أعلى وأعلم.

وأخيرًا فما عرضته في هذا المقال لا يعدو أن يكون وجهة نظر لا أدعي لها الصواب المطلق، الذي يتجاوز ما قيل وما سُطر، فإذا ما وافقتُ الحق فيه فهو محض منة من الله الكريم، وإن جانبته أو زللت فيه فأنا أبرأ منه إلى الله العلي العظيم، طالبا منه العفو والصفح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين