فأنساه الشيطان ذكر ربه

 

ورد إلي سؤال عن معنى "فأنساه الشيطان ذكر ربه"، وهل يرجع ضمير المفعول والمجرور إلى يوسف عليه السلام، أم إلى ساقي الملك؟

فأقول، وبالله التوفيق: قال تعالى: "وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين" (سورة يوسف الآية 42).

أي قال يوسف للذي علم أنه ناج (وهو الساقي) من بين صاحبيه الذين استعبراه الرؤيا: اذكرني عند سيدك الملك واصفا إياي عنده وقاصا عليه قصتي ومخبرا إياه بمظلمتي، فأنساه الشيطان ....

قولان في تفسير "فأنساه الشيطان":

اختلف أهل التفسير في معناه إلى قولين:

القول الأول: ما ذهب إليه أبو جعفر الطبري ونقله عن علماء من السلف: أن هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن غفلة عرضتْ ليوسف من قبل الشيطان، نسي لها ذكر ربه الذي لو به استغاث لأسرع بما هو فيه خلاصه، ولكنه زلَّ بها فأطال من أجلها في السجن حبسَه، وأوجع لها عقوبته.

والقول الثاني: ما نقله الطبري عن محمد بن إسحاق أن الشيطان أنسى الساقيَ ما سأله يوسف من ذكره عند ربه الملك، وهذا رأي غير واحد من المفسرين.

نقد القول الأول:

يتضمن القول الأول طعنين في يوسف عليه السلام:

الطعن الأول: غفلته عن الاستغاثة بربه، إذ سأل الساقيَ، وسؤال غير الله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وأمثالهم من الصديقين والقائمين في مقام العبودية، ولما صدرت من يوسف تلك الزلةُ صار مؤاخَذا، وهذا طعن شديد، فيوسف عليه السلام في أعلى درجات الصبر والثبات، ومن أفضل المتوكلين على ربه المستغيثين به، ولم تسرد هذه القصة في كتاب الله تعالى إلا لبيان مقامه في الصبر والثبات والاستغاثة بالله والتوكل عليه، والتوكل من أفعال القلب، لا تنافيه الاستعانة بالناس، وهي جائزة في دفع المظلمة بل مأمور بها، وقد استعان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو رأس المتوكلين، بغيره من المسلمين والكفار.

والطعن الثاني: إنساء الشيطان يوسف عليه السلام ذكر ربه، وهذا لا يجوز عليه، فإنه كما عرف من حاله دائم الذكر لربه، وهكذا الأنبياء كلهم فإنهم يذكرون الله في أحيانهم كلها، وقد جاء في كتاب الله تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" (سورة الحجر 42)، فالشيطان لا سلطان له على عباد الله المصطفين المخلصين، وإذا حصل شيء طفيف من وسوسة الشيطان تنبهوا فورا وتذكروا، قال تعالى: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" (سورة الأعراف 201).

ولا يخفى على المتدبرين في كتاب الله تعالى أنه كلما ذكر فيه شيء من زلات الأنبياء عليهم السلام أعقبه الله تعالى ببيان توبتهم، فلوكان سؤال يوسف عليه السلام هذا زلة لتاب منها، ولم ينص القرآن على توبة منه أو استغفار، فثبت أن قوله "اذكرني عند ربك" قول جائز سائغ، لا لوم فيه على يوسف عليه السلام ولا عتاب.

ترجيح القول الثاني:

فالقول الثاني هو الأولى بالصواب، وهو الأوفق بمقام يوسف عليه السلام، وهو المتسق مع نظام الآية.

أسباب ترجيح هذا القول:

الأول: أن فيه نسبة إنساء الشيطان إلى الساقي لا إلى يوسف عليه السلام، وهو الواقع الذي لا خفاء فيه، فإن الساقي نسي ذكر يوسف عند الملك، حتى رأى الملك رؤياه، فحينئذ تذكر الساقي قول يوسف عليه السلام له.

والثاني: أنه لو كان قوله "اذكرني عند ربك" زلة من يوسف لقال: "وقد أنساه الشيطان" جملة حالية.

والثالث: أنه هو الجدير بمثله من العالِمين بسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، وهو الذي وقع بالفعل، فإنه ما خرج من السجن إلا بأمر الملك، وما أمر الملك بإخراجه إلا بعد أن أخبره الساقي خبره، فلا يمكن أن يكون ذلك ذنبا.

والرابع: أن القول الأول يستلزم أن نسيانه ربه استمر هذه السنين، وأنه لم ينتبه لذنبه طول هذه المدة، وهذه تهمة فظيعة ضد نبي من أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والتسليم.

والخامس: أن النسيان ليس ذنبا يعاقب الله عليه، وقد قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: "وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (سورة الأنعام 68)، ولم يعدَّ الله النسيان هنا ذنبا أو زلة.

إشكال لغوي في إرادة هذا المعنى:

وأورد على هذا القول الثاني الذي رجحناه إشكال لغوي، وهو أنه لو كان الساقي مرجع الضمير، لقال: "فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربه"، ويقتضي هذا المعنى حذفين في الكلام.

فالجواب أن المصدر عامل ضعيف، ومما يخفف عن ضعفه هو إضافته إلى معموله، وإذا كان له أكثر من معمول (فاعل ومفعول وظرف مثلا) صح إضافتُه إلى واحد منها وحذفُ غيره.

فالحذف الأول في الآية هو حذف المفعول به، أي حذف "يوسف"، وهو كثير جدا في اللغة، فمثلا قلتَ: ضربتُ زيدا، فقيل لك: الضرب ظلم، أي ضربك زيدا ظلم، بحذف الفاعل والمفعول.

والحذف الثاني: هو حذف الظرف "عند"، وليعلم أن حروف الجر وكذلك بعض الظروف لا تصلح أن تكون مضافا إليها، وإذا أضيف المصدر إلى ما لا يصلح مضافا إليه من حروف الجر والظروف حُذف ذلك الجار والظرف، وأضيف المصدر إلى معمول المحذوف، قال تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" (سورة الأعراف الآية 158)، فالرسول يتعدى إلى معموله بصلة "إلى"، وإذا أضيف إلى المعمول حذفت الصلة، وقيل "رسولكم" أي الرسول إليكم.

مثال الحذفين معا إن قال قائل: "نجحتُ في الامتحان"، فقيل له: "نجاحُ الامتحان إنجاز كبير" أي نجاحه في الامتحان إنجاز كبير، وقولك: "وصلتُ إلى المسجد مبكرا لصلاة الجمعة"، فقيل لك: "وصول المسجد مبكرا فيه أجر كبير"، أي وصولك إلى المسجد، ومثاله في القرآن الكريم قوله تعالى: "وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا ..." (سورة سبأ الآية 33)، ومعناه: بل مكركم في الليل والنهار، فحُذف الضمير وحرف الجر جميعًا.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين