الأحزابُ في إِدْلِب (3)

مَخَارج الأزمات في الخندق وإدلب

1. التأسِّي بالأفعال:

في شدةٍ كالخندق وإدلب يتقاسم الناس والقادة المغارم والمغانم؛ فالقائد والجند جسدٌ واحدٌ، يجوع كأصحابه وزيادة، ويحفرون الخندقَ يدًا بيد، ويحطِّمون صخوره معًا، ويحرسون ثغوره مناوبةً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس بنفسه في الخندق، وكان يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته)(1) (وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام)(2) فالحال أبلغ من المقال، وما تشهده العيون أوعَى وأبقى مما يطرُق الآذان، وتأثير الطباع في الطباع لا يجهله أحد ولا تُخطئه عين؛ ذلك أنَّ (التأسِّي بالأفعال -بالنسبة إلى من يعظم في الناس- سرٌّ مبثوث في طباع البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، لا سيما عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبةً وميلًا إلى المتأسَّى به)(3) ؛ فحريٌّ بالمرابط منَّا واللاجئ والمهاجرِ والموسر والمعسر وفرسان السياسة والسيف والقلم وأرباب المال والرعاة والرعية أن يكونوا جميعًا على قلب رجل واحدٍ في المواساة بتَبِعات هذه المأساة، فإنها لَمَقتلة ما عفَّت مسغبتها وسَموم زمهريرها وسُموم أسلحتها ونيرانها ولا عافَت رضيعًا أو شيخًا أو مريضًا، فأقلُّ ما يقال في مسؤولياتنا عنها أنَّها فرضُ كفاية على القادرين بالمباشرة وعلى غير القادرين بإعانة من يقدرون.

2. الأمن العامٌّ والخاصُّ في الحربِ

سبقَت هجومَ الأحزابِ تدابيرُ وقائيَّةٌ احترازيةٌ من أزماتٍ وعدوانٍ محتمل على العرضِ والنَّسل، وقِوام تلك التدابير الشورى والتخطيط والمواساة والإيثار والتعاون، ومن أهمِّها في باب مقاصد الشريعة تحصين الذَّراري والنساء في أحصن الحصون (عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة، قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حين خرجوا إلى الخندق رفعوا الذراري والنساء في الحصون مخافة العدو عليهم)(4) (وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارعٍ حصنِ حسان بن ثابت، قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه مع النساء والصبيان)(5) (وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث الحرس إلى المدينة لئلا يؤتَى الذراري والنساء على غِرَّة)(6).

هلمَّ فحدِّثني يا صاحِ عمَّا قدَّمناه في إدلب ومخيمات الركبان والديرِ وغيرها لحرائر سورية وذراريها وشيوخها وعجائزها وللجرحَى والمعاقين من مقوِّمات الحياة والأمنِ سوى خيامٍ في العراء؛ تراقصها الرياح وتغرقها الأمطار وتقتلعها السيول، وتصفعها عواصف الهوى والأهواء، وتنسفها طائرات الاحتلال الروسي نسفًا فتذرها قاعًا صفصفًا، ثم تتربص بأطفالِ تلك الخيامِ مخالبُ زوَّارِ الليل من الظلاميين أو أدعياءِ التنوير الغربيين ووكلائهم؛ ليحيوا بالدواء والغذاء أجسادهم البالية، ويغتالوا بسمومهم عقولهم الخاوية، ويستغلوا جائحةً فاقرةً يجتاحون بها كرامةً لطالَمَا بذلنا في سبيل نيلِها كلَّ نفسٍ ونفيس.

وهذا يا صاحِ يذكِّر بسؤالٍ لطالَما طرحتُه وما زلت أطرحُه: ألم يكنْ حريًّا بنا أن نُقَيِّم تقييمًا شرعيًّا وعسكريًّا وحضاريًّا مسألةَ حروبِ المدن وعبثيةَ تحريرها شبرًا فشبرًا ثم التحصن بها والتترس بالضعفاء من نساء وأطفال وشيوخٍ؟ ولا يذهبنَّ بأحدٍ الوهمَ ويخلطَ مسألة بأخرى، فيظنَّ أنَّ هذا القول يحول دون واجب المتظاهرين في دفاعهم عن أنفسهم وفي حماية غيرهم لهم من صواعقِ ونيرانٍ تمطرهم بها أحزابُ الإلحادِ وذيلُ الكلبِ المعصوبُ بقلانس الكهنة؛ فإنَّ ذلك الدفاعَ حقٌ واجبٌ للمتظاهرين وعليهم تؤيِّده كل شريعة وقانون وعقل، وإنَّه لَعبثٌ بالعقل والدينِ أن يتفيهق امرؤٌ فيصِم المتظاهر بالمنتحر بينما وسمَه المعصوم بسيد الشهداء فقال صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قال إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله)(7) ، بل إن القرآن أشار إلى أنَّ الفطرة تقضي بتقديم حفظ النفس على ما سواها ولو كان الآمر بالقتل أبًا أو ربًّا اللهم إلا في نادرةٍ يغلب فيها الإيمانُ الفطرةَ امتثالًا لأمرٍ إلهيٍّ {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. وإذا أوغلَ الطاغيةُ السفَّاح واستعانَ بالمحتلِّين في سفك دماء المتظاهرين -وقد أغرَقوا- فقتاله درءٌ لصياله ومنعٌ لبغيه، وإعلاءٌ للحق على الباطل، وانتصارٌ لحلف أهل الإسلام على أحزاب الإلحاد، وتحريرٌ للأرضِ من الاحتلالِ، وإعانةٌ لأهلها على شذَّاذ الآفاق المحتلِّين وأذنابهم من أمريكانٍ وروسٍ ومجوس؛ فليس فيما سبق ما يقتضي الحيلولةَ دون قتالِ هؤلاء المحتلِّين لدحرِهم وتحرير الأرض من رجسهم.

هذا وأما إن تعذرت مواجهة العدو في ساحات الوغى ومعقل جنده ومرابض مقاتلاته فلا أقلَّ من خطة نفيرٍ عامٍ؛ يمتثلُ لها كلُّ من له طاقة بالقتال، وتُجنِّبُ بعضَ المدن والقرى الحربَ لتتحصنَ بها الذراري والأطفال، وتضعُ خطوطًا ومساحاتٍ حدوديةً نهائيَّةً للجبهات الأمامية والخلفية تجعل من الانسحاب منها فرارًا قاضيًا بالهزيمة النكراء، أمَّا ما نحن عليه من تقهقر وتفريغ للبلاد من أهلها ثم الهرَب منها بلدة تلو بلدة فهذا سلوك مدمِّرٌ وتترسٌ بالمستضعفين لا أرى له وجهًا شرعيًّا سائغًا، ونهايتُه استسلام مَهين وهوانٌ ومهانةٌ القتلُ ألفَ ألفِ مرَّةٍ دونَها بكثير، ودونكم حَماة الثمانينات سلوها تنبئكم؛ فإن من ذاقَ عرف، وما راءٍ كمن سمعا.

3.المفاوضات وخدعة المداولات

لما استبدت بالصحابة غاشيةُ الحصار تداوَل الرأي قائدهم وسراتهم بحثًا عن مخرجٍ من فالِقة حاقَّة ألْمَّت بهم، فنظر في أطروحاتهم، وكاد يقبل رأيَ فئةٍ منهم لِيَفُتَّ عضدَ اثني عشر ألف محاصِرٍ ويشتت شملهم ويفرِّق جمعَهم وينفضَّ عنهم ببعضِ ثمار المدينةِ أشدُّ القبائل بأسًا وأكثرها عددًا؛ فتزول بذلك عن الصحابة نارُ الحرَّة وكربُ كربلاء وغيظُ الجمل وفتنة صفين إلى أنْ تقوى عزيمتهم على الثبات ومقاومة الحصار ومقارعة العدو بالرمي، (والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما)(8).

إنَّ القصدَ إلى اختراق صفوف العدو وتمزيق وَحْدته لَهو لبابُ فقه هذه الواقعة وحكمتها، واليوم لدينا في تشكيلات أحرار سورية قوى سياسيةٌ واجتماعية ودينية قَمِينةٌ باختراق العدوِّ ونشر الذعر وفضِّ تكتلاته وتمزيق لحمة صفوفه وسداها والضغط والتضييق عليه ولو بقدرٍ ما من خلال الأحزاب السياسية المعارضة لحلفائه مثلًا، لا سيما أنَّه لا يجمع الاحتلال الشيوعي الشيعي وشبيحته سوى عدوِّهم المشترك (قال أبو سفيان: أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد)(9) ، وأمَّا عوامل تفرُّقهم فما أكثرَها! وفي مقدِّمتها اختلاف المصالح وتنازعهم عليها؛ فليس شيءٌ من ذاك الاختراق بمستحيلٍ لو أنَّ تجمعات الأحرار تلك أخلصت للقضية وتحررت من رهاب الإعلامِ والرأيِ العام والتصور المحدود والرؤيةِ القاصرة والأغراضِ الشخصية، فالسوريُّ العلماني والليبرالي النصراني أو الكرديُّ أو العلويُّ على قلب الأمريكي والأوروبي، وهؤلاء والشيوعي السوريُّ أقربُ إلى المحتلِّ الروسي والملحد الصينيِّ من غيرهم، وبين بعضِ الإخوانِ والشيعةِ صلات ووشائج، ولأهل السنة على اختلاف مشاربهم علائق شتى مع دول وأحزابٍ عربية وإسلامية وغربية يسارية ويمينية، ولن تحول بينهم عوائق مصطنعة أو هواجس المصالح لأنَّ ما بينهم من قواسم مشتركة كفيل بتحقيق شيءٍ ما في التفاوض والمساومة وتبادل المنافع.

إنَّ الجمودَ وتعطيل العقول والتعامي عن القوى المتاحة والبدائل الموفورة والمنظورة في مثلِ الخندق وإدلب مقتلةٌ عظيمة خاصَّةً إذا كنَّا جميعًا وقلوبنا شتَّى وعدونا متحد، أو إن كنَّا قلَّة في العُدَّة والعدد؛ فإن التغرير عندئذٍ بفلذات أكبادنا وشموع حضارتنا ومستقبلنا جريمةٌ نكراء وجاهلية جهلاء، وهذا ما يفسِّرُ الضرورة الحاملة على وجوب البحث للعثور على وسائل بديلة عن مقارعة العدوان الغاشم وجهًا لوجهٍ كالخندق ورمي العدو بالسهام والنِّبال من وراء الخندق، وكالخدعة التي كُلِّف بها نعيم بن مسعود الغطفاني المنشق عن الأحزاب ليُسْلِمَ ثم يُؤْمر بإخفاء إسلامه والإيقاع بين الحلفاء: (قال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنَّا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة)(10) ، وقد فعلها نعيم فنعمَّا ما فعل! لقد أشعل حربَ التخوين والشكوك بين يهود بني قريظة والأحزاب بخدعةِ الرهائن؛ فأحدقت بهم الظنون وفرَّقتهم الرِّيَب وأوجس كلٌّ منهم في نفسه خيفةً من حليفِه فتخاذلوا (فقال أبو سفيان ورؤوس الأحزاب معه: هذا مكر من بني قريظة، فارتحِلوا فقد طالت إقامتكم؛ فآذَنوا بالرحيل، وبعث الله تعالى عليهم الريح، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله، فارتحلوا فولوا منهزمين)(11) ، فهذا الذي رأيتَ يعزِّز أهمية السياسة الحربية ومفاوضاتها كالعُرُوض الاقتصادية المقدَّمة لغطفان الجناحِ الأقوى في حِلْفٍ جمعتْ أشتاتَهُ المصالحُ التجاريةُ المشتركة والتطلُّع للهيمنة الجغرافية على الطرق الدَّوْلية، فعلى الخندق (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام عليه المشركون بضعًا وعشرين ليلةً قريبًا من شهر، لم تكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار، فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرًى أو بَيْعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك؛ فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا. فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، وعدوُّهم محاصرُهم)(12).

4.عِبَرٌ ورسائل مِنَ صحابةِ الخندق إلى أهل إدلب:

لعلك تدرك أنَّ القوَّة الحاسمة للمعركة هي الفارق الوحيد بين أصحاب الخندق وأهل إدلب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] فهناك الريح المرسلة ومعها جنود ربَّانية لم ترَها العيون استنزلَتْها دعوات المضطرين (عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب، فقال: «اللهم مُنزِل الكتاب، سريعَ الحساب، اهزِم الأحزابَ، اللهمَّ اهزِمْهُم وزلزِلْهُم»)(13). وعلة الفرق بين الفئتين ثلاثيةٌ أومأت إليها الآية التي شهدت للفئة الأولى كلِّها بها مجتمعةً، وهي "الإيمان والعمل والرقابة الإلهية" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]، وبرهنَت على جوهرِ الفرقِ المذكورِ بين الخندق وإدلب وقائعُ الأحوالِ وشهودُ المواقفِ وشواهدُ الأحداثِ المثالية الدالَّة دلالةً قاطعةً على الرباعيةِ التالية:

1) صدق الصحابة في الاستمساك بمواثيق الأخوَّة والاتحاد والتعاون، ومساواة الراعي بالرعية وحرصه على أرواحهم بتخطيطه وفدائيته وعنايته بهم وبقراره الصائب المسدَّد.

2) رسوخ قيمِ الإيثار والعطاء والأمانة والصبرِ والإقدام والفدائية والثبات الإيمانيِّ ورباطة الجأش رغم الحصار الْمُطبِق إِثْرَ غدرِ بني قريظة ونقضِهم عهد الصحيفة وتطويقهم للمدينة من الجنوب حيثُ لا خندق؛ إذ حُفر الخندق شمال المدينة فقط لأنَّها هي الجهة المكشوفة، بينما كانت سائر الجهات محصَّنةً بالبيوت المتقاربة والأشجار المتشابكة والأراضي الصخريّة الجبلية التي تحول دون اقتحام الأحزاب لها ومن ورائها عيون ثلة من الدوريات المناوبة تبيت وتمسي وهي تحرسها.

3) صلابةُ مبادئ الشورى والتنظيم والتخطيط والتنبؤ بالأحداث ليُعِدُّوا لها، والتعتيم الإعلامي وكتم الأسرار والاستخبارات والتجسس والتثبت من الأخبار والأحداث، والعمل الجماعيّ والمسؤوليات والتَّبِعات وترتيب الأولويات والمقاصد الكلية الخمسة وأصول التفاوض والمناورات، والإدارة الأمنيَّة الأمينة لسكانِ المدينة في حصنٍ لبني حارثة مع سد الثغور من جهات المدينة كلِّها بدوريات حراسةٍ عيونها ساهرة ترصد الأحزاب وتتربص بهم.

4) عملُ كلِّ فردٍّ في الفريقِ بروحِ القائد وحسِّه إزاء المسؤوليات عملًا متقنًا محكمًا مستنفذًا للطاقات مستوفيًا للأسباب مستجمعًا للشروط والمكملات، واقتران هذا العملِ برقابتِه الربانيَّة مع الدعاءِ المستوفي لشروطه والتضرعِ والالتجاءِ إلى الله والتوكلِ عليه والاستعانةِ به، وقرنُه بالاستبشار بوعده تعالى للمؤمنين بالنصر، وملازمة العملِ للأمل والتفاؤلِ وانتظارِ الفرَج رغمَ ما حاق بهم في غزوة الأحزاب من شدائد وكرباتٍ وهمومٍ وغمومٍ ومكايد ودسائس هدَّدت الإسلامَ تهديدَ وجودٍ وبقاءٍ.

وحسبك شاهدًا على الدِّعامتين الأولى والثانية في هذه الرباعية ما قصَّهُ جابرٌ من أهوالٍ ومعاناةٍ وصبرٍ ومواساة وتعاونٍ وبذلٍ وإيثار وإيمانٍ ويقين...، عن جابرٍ رضي الله عنه قال: (إنا يوم الخندق نحفِر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاؤوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كُدْية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل». ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقا، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الْمِعول فضرب، فعاد كثيبًا أَهْيَل أو أَهْيَم، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ما كان في ذلك صَبرٌ، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعَناق، فذبحت العَناق، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البُرمة، ثم جئت النبي -صلى الله عليه وسلم- والعجين قد انكسر، والبُرمة بين الأَثَافيِّ قد كادت أن تنضَجَ، فقلت: طُعيِّم لي، فقم أنت -يا رسول الله- ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، قال: "كثير طيب، قال: قل لها: لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا" فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك! جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويُخمِّرُ البُرْمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزِع، فلم يزَل يكسر الخبز ويغرِف حتى شبعوا وبقي بقيَّة، قال: «كلي هذا وأَهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة»)(14) ولهذه الواقعة نظائر منها نحوُ كفٍّ من تمر أتت به ابنة بشير بن سعد لأبيها وخالها، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب(15). وأمَّا إدلب فأنت في غنًى عن تقييمها من منظور كلٍّ من ثلاثية العلة الفارقة بين الفئتينِ والرباعيَّةِ السابق ذكرها.

وأمَّا أنْ يكون في الناس قومٌ يَدَعونَ اللهَ حتى إذا غلت المراجل وبلغ السيل الزُّبى جأروا وهُرِعوا يَدْعون اللهَ ويستنزلون بدعائهم نصره بغتةً ومعجزاتِه جملةً، ثم يُمْنَون بما لا يُمَنُّون فيردِّدُون متردِّدين مشكِّكين: أين نصر الله؟ أين أنت يا الله؟ فإنَّ غزوةَ الخندق لَتجيب هؤلاء قائلةً: إنَّ الله ونصرَهُ حيثُ الثلاثيةُ المفقودةُ والرُّباعيَّةُ الموءودة.

وأمَّا عباد الله المؤمنون به حقَّ الإيمان، الذين استجابوا لله ورسوله في الفرح والتَّرَح والمنشط والْمَكره ويدعونه دعاء المضطرين وفيهم قال رب العالمين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]: فلا أراك ترتاب في أنَّهم على بصيرة رشيدةٍ تهيب بهم أن تلوك ألسنتهم ما يأباه إيمانهم وما لا يرتضيه امتثالهم للأمر بالدعاء، فهو عبادةٌ صِرفةٌ منفكةٌ في الجهةِ عن الإجابةِ ونوعِها ووقتِها وضروبِها وطرائِقها لِحكَمٍ يعلمها سبحانه وشروطٍ تقتضيها الإجابةٍ وحالٍ حالكٍ أدناهُ الاستغلالُ وأقذرهُ الكفرُ واستحلالُ الدماءِ بالظنونِ.

بهذا الذي خبَرْتَ وجب أن تكون غزوةُ الخندق مدرسةً إِدْلبيَّة، ومَلْجأً للمضطهدين في العالَم، ومِجْهرًا يبصِّرُنا بالجراثيم والسموم، ومنظارًا يقرِّب لنا مسافة العَود الحميدِ والنصر المأمول؛ فلقد كانت هذه الغزوة عاملًا أصيلًا في تحوُّل موقف المسلمين بعدئذٍ من الدفاع إلى الهجوم لصدِّ أي عدوانٍ واقعٍ أو متوقعٍ ولاقتلاع أي حصنٍ يُعيق بلوغ الدعوة وتبليغها أو يهدِّد الدعوة الجديدة والدولة الوليدة، حتى إنهم فتحوا مكة بعدها ببضع سنين ووحَّدُوا العرب تحت راية المسلمين، فأعظِمْ بغزوةٍ كهذه وأنعِمْ بها من مدرسةٍ كنَّا وما زلنا في إدلب وسورية وفلسطين والعالم الإسلامي برُمَّته بأمسِّ الحاجةِ إلى فقهِ عبرِها ودروسِها وعِظاتها ومبادئها وقيمها! ومن يدري فلعلنا نبلغ بها يومًا مقام التوحيد الحقيقي والإيمان الذوقي، وعندئذٍ يمنُّ علينا ربُّنا بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] فنذعن له ساجدين مُخبِتين قائلين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22].

1 المصدر السابق، (2/ 464) (2/ 463).

2 المصدر نفسه، (2/ 647).

3 الشاطبي: الموافقات، (5/ 262).

4 ابن هشام: السيرة النبوية، (2/ 226)، ابن كثير: السيرة النبوية، (3/ 207)، البيهقي: دلائل النبوة، (3/ 440).

5 ابن هشام: السيرة النبوية، (2/ 228).

6 الرحيق المختوم، ص285.

7 الحاكم: المستدرك على الصحيحين، (3/ 215)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

8 ابن هشام: السيرة النبوية، (2/ 223).

9 الواقدي: المغازي، 2/ 442.

10 ابن هشام: السيرة النبوية، 2/ 229.

11 الواقدي: المغازي، (2/ 487).

12 ابن هشام: السيرة النبوية، 2/221-224.

13 صحيح مسلم، (3/ 1363).

14 صحيح البخاري: 64 - كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم (4101)، (5/ 108).

15 ابن كثير: السيرة النبوية، (3/ 190).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين