خطة ليبرمان لعزل قطاع غزة.. عدة عصافير بحجر واحد

منذ أن خاض غمار الحياة السياسية قبل ربع قرن، لم يحظ وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بهذا المديح الذي بات يغدق عليه من قبل كل حلفائه في اليمين وخصومه في اليسار والوسط على حد سواء، إثر تقديمه خطته لانفصال إسرائيل «النهائي» عن قطاع غزة.


فقد باتت خطة عزل غزة التي بلورها مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية جاهزة، وتبناها ليبرمان في قلب الجدل في إسرائيل. وعلى الرغم من أن الخطة لم يتم تبنيها من قبل الحكومة الإسرائيلية، إلا أن الكثير من النخب الإسرائيلية باتت تدعو لتبنيها وجعلها نقطة الانطلاق في تعاطي إسرائيل مع القضية الفلسطينية.


وقبل الخوض في تفاصيل الخطة وأهدافها وتداعياتها، فإنه يمكن القول إن خطورتها تكمن في أنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإعادة زمام المبادرة لإسرائيل بشكل يمكنها من تحقيق مصالحها الإستراتيجية في أقل قدر من الممانعة العربية.


بنود الخطة
تنص خطة ليبرمان على استكمال عملية «فك الارتباط» عن قطاع غزة التي بدأها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، التي تم خلالها تفكيك المستوطنات اليهودية في قطاع غزة وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في محيطه. ويرى ليبرمان أن غاية خطته أن يعترف العالم بانتهاء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة. ولتحقيق هذا الهدف يتطلب من إسرائيل الآتي:


1- التسليم بحكم حركة حماس في غزة والتوقف عن المحاولات لإسقاط حكم الحركة أو إضعافه.


2- فك الارتباط بين الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد قطاع غزة، بحيث تتوقف إسرائيل عن مدّ قطاع غزة بالكهرباء والماء، وذلك عبر إقامة محطة توليد كهرباء ومنشأة لإزالة ملوحة مياه البحر بتمويل دولي، ومحطة لتنقية المياه العادمة، والتوقف عن استخدام العملة الإسرائيلية «الشيكل» في المعاملات المالية في القطاع, مع العلم بأن إسرائيل قطعت شوطاً في الانفصال الاقتصادي عن قطاع غزة عبر قرار بنك إسرائيل قطع العلاقات بين الجهاز المصرفي الإسرائيلي والبنوك العاملة في قطاع غزة.


3- الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي على آلية لتفتيش السفن المتجهة إلى غزة، بحيث تكف إسرائيل عن المطالبة بتفريغ حمولات السفن المتجهة إلى غزة في الموانئ الإسرائيلية, حيث تقترح الخطة تفتيش هذه السفن في ميناء ليماسول القبرصي، أو في موانئ يونانية تحت إشراف الاتحاد الأوروبي، بالتنسيق مع إسرائيل.


4- نشر قوات أوروبية خاصة على الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل، وقطاع غزة ومصر، وذلك لمنع عمليات إطلاق الصواريخ والتسلل من القطاع إلى إسرائيل، وللحد من عمليات تهريب السلاح والوسائل القتالية من مصر إلى قطاع غزة. وعلى الرغم من أن الخطة لم تتحدث عن ذلك بصراحة إلا أنه من الواضح أن ليبرمان يرى أن خطته تقضي باستبعاد أن تكون إسرائيل طرفاً في أي اتفاقية بشأن تشغيل معبر رفح، بحيث إن إسرائيل سترى في هذه القضية شأنا يخص كلاً من مصر وحركة حماس.


5- تحرك دبلوماسي إسرائيلي مكثف في الساحة الدولية لحشد التأييد للخطة، بحيث تحصل إسرائيل بعد تطبيقها على اعتراف دولي بانتهاء احتلالها لقطاع غزة.


ظروف بلورة الخطة
تمت بلورة خطة ليبرمان في ظل ظروف دفعت الكثير من النخب في تل أبيب للاقتناع بأن إسرائيل لم يعد أمامها إلا أن تخسر إذا حافظت على طابع تعاطيها الحالي مع قطاع غزة. فقد فرضت إسرائيل الحصار على قطاع غزة لتحقيق هدفين أساسيين:


أولاً: توفير الظروف التي تسمح بالإفراج عن الجندي الإسرائيلي المختطف لدى حركة حماس جلعاد شاليط, مع أقل ثمن يمكن أن تدفعه تل أبيب لقاء ذلك.


ثانياً: العمل على إضعاف حكم حركة حماس وصولاً إلى إسقاطه، وذلك ليس فقط خدمة للمصالح الإسرائيلية، بل خدمة لكل من السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس والحكومة المصرية، فإسقاط حكم حماس يسمح بعودة حكم حركة فتح، علاوة على أنه يضع حداً لقلق النظام المصري من وجود حكومة يديرها خصومه من الإخوان المسلمين.


لكن دلت التجربة على أن إسرائيل مع الأيام لم تزدد إلا بعداً عن تحقيق هذين الهدفين، فالجمع بين الحصار والعمليات العسكرية العلنية والسرية لم ينجح في إقناع حركة حماس بتقليص قائمة المطالب التي تطرحها للإفراج عن شاليط. وفي كل ما يتعلق بهدف إضعاف حكم حركة حماس، فإن العمليات العسكرية والحصار أديا عملياً إلى تحقيق نتائج عكسية تماماً.


فقد أدّت مظاهر التضامن الدولي مع قطاع غزة بسبب الحصار إلى تعزيز حكم حركة حماس، علاوة على أن الحصار وسع من دائرة الاهتمام الشعبي في العالمين العربي والإسلامي بما يجري في قطاع غزة، وهو ما بات يهدد بتوريط إسرائيل في مواجهات مع الكثير من دول العالم، على غرار ما حدث في أعقاب أحداث أسطول الحرية، التي كانت أهم محصلة لها تدهور العلاقات بين إسرائيل وتركيا، مع العلم أن تركيا كانت تعد الدولة ذات العلاقات الاستراتيجية الأوثق مع إسرائيل.


وبدلاً من إضعاف حكم حماس فقد مس الحصار بمكانة إسرائيل الدولية وشكل مصدراً للتشكيك بشرعيتها. وقد استفاد ليبرمان في طرح خطته من الدعوات التي صدرت عن النخب السياسية والأمنية في إسرائيل التي باتت تدعو إلى بلورة السياسة تجاه قطاع غزة استناداً لمصالح إسرائيل الاستراتيجية فقط وليس وفق بوصلة مصالح سلطة عباس والنظام المصري.


تصفية القضية الفلسطينية
لا شك في أن مرامي خطة ليبرمان الاستراتيجية خطيرة جداً، وتهدف بشكل أساسي إلى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، وذلك من خلال تكريس الفصل السياسي والقانوني والإداري بين قطاع غزة والضفة الغربية في ظل اعتراف دولي, والقضاء على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتوفير بيئة سياسية مناسبة تسمح بإطلاق يد إسرائيل في الضفة الغربية والقدس المحتلة، خاصة على صعيد تعاظم المشروع الاستيطاني.


في نفس الوقت فإن الخطة ستعمل على سدّ منافذ العمل السياسي أمام السلطة الفلسطينية وحركة «فتح»، وسيكون أمام محمود عباس خياران لا ثالث لهما في حال تم تطبيق الخطة، فإما أن يسارع لإعادة خلط الأوراق والإعلان عن حل السلطة الفلسطينية، وإما أن تتحول سلطته إلى نسخة أكثر تشوهاً من سلطة أنطوان لحد في جنوب لبنان.


ومن أسف فإنه لا يوجد ما يدل على أن عباس يمكن أن يصل إلى حد إعلان حل السلطة، في حين أن سلطته قطعت شوطاً كبيراً على سبيل التحول إلى كيان متعاون مع إسرائيل، فلم يعد يمكن الحديث عن تنسيق أمني فقط بين هذه السلطة وإسرائيل في محاربة المقاومة، بل إن هناك تكاملاً في الأدوار.


فالسلطة التي تدعي حنقها على إسرائيل بسبب المشاريع الاستيطانية والتهويد هي نفس السلطة التي يستضيف قادة أجهزتها الأمنية يوفال ديسكين رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية «الشاباك» ويطلعونه على خططهم لمواجهة المقاومة والشوط الذي قطعوه في تحقيق هذا الهدف، وهي نفس السلطة التي لا تتورّع عن دعوة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي آفي مزراحي لحضور مناورة لحرس الرئاسة الفلسطيني.


من الواضح أن خطة ليبرمان تنتمي إلى مدرسة الواقعية السياسية الإسرائيلية التي تهدف إلى المحافظة على المصالح الإسرائيلية ولو عن طريق كسر «المحرمات» السائدة. فليبرمان مستعد للقبول بحكم حركة حماس في قطاع غزة، والتضحية بسلطة عباس، مقابل ضمان تحقيق أهداف إسرائيلية بعيدة المدى.


أهداف استراتيجية

وترمي خطة ليبرمان إلى تحقيق أهداف استراتيجية أخرى، مثل: تعميق التناقضات والخلافات بين حكم حماس في قطاع غزة والنظام المصري الذي لن يروق له استقرار حكم حماس في القطاع، ما قد يؤدي إلى المزيد من مظاهر الاحتكاك بين الجانبين. في نفس الوقت فإن ليبرمان ينطلق من افتراض مفاده أن خطته ستعمل على تهيئة الظروف الإقليمية والدولية لمواجهة المشروع النووي الإيراني الذي يعتبر في إسرائيل مصدر الخطر الوجودي الأول. فحسب منطق ليبرمان فإن تنفيذ خطته سيكون بديلاً عن التقدم في المسار التفاوضي مع السلطة الفلسطينية، وبالتالي يتم سحب البساط من تحت أقدام بعض الأطراف التي تربط بين تعاونها في التصدي للبرنامج الذري الإيراني وبين حصول تقدم على المسار التفاوضي الفلسطيني الإسرائيلي.

واقعية الخطة
على الرغم من أن كل الحركات الفلسطينية أعلنت رفضها لخطة ليبرمان، إلا أنه ليس بوسع القوى الفلسطينية إحباط الخطة، ولا سيما أن تطبيقها لا يحتاج إلى موافقة الجانب الفلسطيني، ويسهم الانقسام الداخلي في تقليص قدرة الفلسطينيين على مواجهة الخطة وتداعياتها، بل إن انسداد آفاق المصالحة قد يؤدي إلى تشكل بيئة فلسطينية موائمة لتطبيق الخطة.

من هنا فإن مصير الخطة يتوقف على مدى التعاطي الدولي وتحديداً الأميركي معها، وهذا ما جعل ليبرمان يشدد على أهمية الجانب الدبلوماسي في حشد التأييد الدولي لها. ومن الواضح أن الإدارة الأميركية ستتحفظ على الخطة لأنها تدرك مرامي ليبرمان الحقيقية منها، وهي تعي أن الخطة وإن لم تضف كثيراً لمعسكر «الممانعة» في العالم العربي, فإن تطبيقها يمثل ضربة قوية لمعسكر «الاعتدال»، وهذا ما لا يتوافق مع المصالح الأميركية.

لكن في المقابل وفي ظل عجز إدارة أوباما على إملاء خطة بديلة على إسرائيل, ولا سيما بعد تراجع الإدارة الأميركية عن مطالبها بوقف الاستيطان والتهويد، فإن إدارة أوباما قد تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع الخطة، في ظل حاجة أوباما للتوافق مع حكومة نتن ياهو عشيّة انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب لاسترضاء اللوبي اليهودي.

مما لا شك فيه أن خطة ليبرمان تهدف بشكل أساسي إلى تصفية القضية الفلسطينية، والملاذ الوحيد لمواجهتها يتجسد في التفاف الفلسطينيين حول برنامج وطني شامل يعيد الاعتبار للمقاومة كخيار لمواجهة المشروع الصهيوني، فمن الواضح أنه لو كانت جذوة المقاومة مشتعلة في الضفة الغربية لما حظيت مبادرة ليبرمان بقبول متزايد في أوساط الصهاينة.

الأمان.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين