لماذا تأخر ذكر الجهاد في آية البر؟

كتب إليّ أحد الفضلاء من طلبة العلم يقول:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وردني هذا التساؤل لاأدري إن كان بمكانه: الآية الكريمة ليس البر أن تولوا وجوهكم….. 

لماذا تأخر ذكر الجهاد الى نهاية الآية؟ وحين البأس..

فكتبتُ في جوابه: 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. حياكم الله أخي ...

لا أرى في الآية ذكرا مقصودا للجهاد، حتى نستشكل تأخيره أو تقديمه.

وإنما جاءت الإشارة إليه استطرادا.

وبيان ذلك: أن الآية تذكر جملة قضايا من أمهات البر التي تُجمِع عليها الشرائع السماوية، جاءت على ترتيب محكَم لا يحسُن خلافه.

القضية الأولى: أركان الإيمان بالغيب. وهي مقدَّمة من حيث الأهمية، كما لا يخفى، ومقدَّمة أيضا من حيث الترتيب الواقعي أيضا، فإن كل ما سواها متفرع عنها. وهذا واضح.

القضية الثانية: الإنفاق في وجوهه في حق من كان يجد ما ينفقه.

القضية الثالثة والرابعة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وهما من أهم أركان الإسلام، ومن أركان جميع الشرائع السماوية السابقة.

الخامسة: الوفاء بالعهد. وهي من أمهات مكارم الأخلاق أيضا، ولذلك تكرّر التنويه عنها في القرآن المكي، لأنها من المسلّمات في كل الشرائع، مثل بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأيتام.....

السادسة والأخيرة: الصبر في حق من كان من أهل الفقر.

وهي في نظري تكميل لقوله تعالى: وآتى المال....

فكأن قائلا قال: وآتى المال.. هذا في الموسر، فماذا عن الفقير البائس؟

فجاء الجواب: والصابرين في البأساء.. 

والفقر ليس الميدان الأوحد للصبر.

فإن الصبر كما يحسُن على الفقر والحاجة فإنه يحسُن في حال المرض، كما يحسُن في حال الحرب.

ولذلك أتبعها بقوله: .... والضراء وحين البأس.

فذكّرت الآية بالصبر في ثلاثة مواطن: شدة الحاجة، "البأساء" وعلة الجسم، "الضراء" ولقاء العدو، "حين الباس".

فذِكر الحرب جاء استطرادا على الصبر، وليس مقصودا بذاته في الآية.

فإن قلت: فلِمَ لَمْ يذكر الجهاد في صنوف البر المذكورة في الآية؟

فالجواب: أن كل ما ذُكر في الآية من أمهات المكارم والكمالات التي أجمعت عليها الشرائع.

والجهاد ليس كذلك.

فإن الجهاد لم يكن مشروعا في شريعة نوح ولا هود ولا صالح ولا مَن بعدهم من المرسلين إلى عهد موسى عليه السلام.

فقد كان الحق سبحانه يتولى إهلاك المكذبين بعذاب من عنده. ريحٍ أو صيحةٍ أو زلزلةٍ أو طوفان.... دون أن يكلف المؤمنين بالأنبياء مجاهدة الكافرين بهم.

واستمر ذلك كذلك حتى أنزل الله تعالى فرض الجهاد على بني إسرائيل في التوراة حين قال لهم موسى عليه السلام: (یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ ۝ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰ⁠خِلُونَ) إلى آخر الآيات من سورة المائدة.

وانظر الإشارات إلى هذا المعنى في الآيات الآتية:

(مِثۡلَ دَأۡبِ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ *وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ* وَمَا ٱللَّهُ یُرِیدُ ظُلۡمࣰا لِّلۡعِبَادِ) [سورة غافر 31]

ثم في قوله: (كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ *وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ* كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ)[سورة آل عمران 11]

ثم في قوله: (وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ *مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ* بَصَاۤىِٕرَ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ)[سورة القصص 43]

فهذا ما حضرني في الجواب.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين