مختارات من تفسير

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة:27]

السؤال الأول:

ما سبب اختيار لفظ النقض في قوله تعالى {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ} [البقرة:27] ؟

الجواب:

إنّ النقض يدل على فسخ ما وصله المرء وركّبه , فنقض الحبل يعني حلّ ما كنت قد أبرمتَه، وقطعك الحبل يعني جعله أجزاءً, ونقض الإنسان لعهد ربّه يدلك على عظمة ما أتى به الإنسان من أخذ العهد وتوثيقه ثم حلّ هذا العهد والتخلي عنه، فهو أبلغ من القطع؛ لأنّ فيه إفساداً لما عمله الإنسان بنفسه من ذي قبل.

فانظر وتأمل كيف جعل الله تعالى التخلي عن الميثاق والوعد نقضاً.

السؤال الثاني:

ما صفات الفاسقين المذكورة في الآية ؟

الجواب:

أخبر الله تعالى أنّ الفاسقين هم المبتعدون عن منهج الله وحدد صفاتهم في ثلاث :

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] فقد أخبرنا الله بأنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] ثم جاءت الغفلة إلى القلوب بمرور الوقت فنقضوا العهد واتخذوا آلهة من دون الله.

{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ }[البقرة:27] والله أمر بصلة الرحم ضمن الروابط التي تبدأ بالأسرة ثم الحي فالقرية فالمدينة فكلِّ المجتمع ضِمنَ تكافلٍ اجتماعيٍّ متميِّزٍ.

بينما هؤلاء خالفوا أمر الله وقطعوا هذه الصلة وخالفوا منهج الله.

{وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [البقرة:27] الله خلق كل ما في الكون على نظام: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] ولكنّ الإنسان المنحرف جاء وأفسد قضية الصلاح في الأرض والكون بأشكال مختلفة.

إنّ غياب منهج الله معناه أنّ الأمور أصبحت على أهواء الناس، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة:27] تدل هذه الصيغة الاسمية الثابتة أنّ الخسران ليس موقوتاً وإنما أبدي؛ ولذلك سيكون الندم عليها شديداً.

والعجيب أنك ترى الناس يعدون للحياة الدنيا إعداداً قوياً فيرسلون أولادهم إلى مدارس اللغة والجامعات ويتحملون في ذلك ما لا يستطيعون وهم في ذلك يعدونهم لمستقبل مظنون وليس يقيناً؛ لأنّ الإنسان قد يموت وهو شاب أو لا يكمل دراسته في المراحل الأخيرة أو يكمل فتأتيه المشاكل فيضيع عمره بسبب الجرائم والمخدرات أو غيرها .

ولكن اليقين الذي لا شك فيه هو أننا سنلاقي الله تعالى يوم القيامة وسيحاسبنا على أعمالنا, ومع أنّ هذا يقين إلا أن كثيراً من الناس لا يلتفتون إليه، يسعون للمستقبل المظنون، ولا يبذلون جهداً لحمل أبنائهم على الصلاة والعبادة والتزام منهج الله في الحياة, إنهم ينسون النعيم الحقيقي ويجرون وراء الزائل.

السؤال الثالث:

ما دلالة كلمة: {مِنْ بَعْدِ} في الآية27، وما الفرق بينها وبين {خَلْفٌ} ؟

الجواب:

1ـ لفظة (بعد) نقيضة لفظة (قبل) وأظهر استعمال لها في الزمان.

2ـ أمّا لفظة (خلف) فهي نقيضة لفظة : (قُدّام)  (وهي في الغالب للمكان) هذا من حيث اللغة. والخلف في اللغة هوالظهر أيضاً.

3ـ أحياناً لا يصح وضع إحداهما مكان الأخرى؛ فلا يمكننا أنْ نضع (خلف) مكان (بعد), ففي هذه الآيات لا يمكن أنْ تحلّ (خلف) محل (بعد)؛ لأنها كلها متعلقة بالزمان. 

شواهد قرآنية: {مِنْ بَعْدِ} قال تعالى :

آ ـ {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:52] .

ب ـ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة:27] .

ج ـ {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ} [البقرة:64]. 

د ـ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:109] .

هـ ـ {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ] [البقرة:120] .

و ـ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].

ز ـ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران:8] وكلها متعلقة بالزمان.

4ـ أمّا (خلف) فهي في الأصل للمكان.

شواهد قرآنية :

آ ـ {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] .

ب ـ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}[يس:9]. 

ج ـ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}[البقرة:255].

د ـ {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] أي يلونهم مباشرة كأنهم واقفون خلفهم.

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين