ربما ... لكن لا غنى عنهم

من الصعب جداً أن يجد المرء في هذه الأيام مكاناً أو مَلجأ أو مَغارات أو مُدَّخَلاً ليقرأ كتاباً أو يطالع بحثاً أو يدبج مقالةً؛ لازدحام المشاغل، واستطالة الطلبات، وكثرة الضوضاء في كل مكان ... بحكم وجود الأولاد، وحضور الأهل والأقارب، وزيارات الصحب والخلان ... حتى غدا من يعثر على مكان خال أو يظفر بوقت لا شغل فيه ليقرأ فيه ويطالع كمن يعثر على كنز ثمين أو يقع على صيد سمين ...

وإنني ذاك الشخص الذي يبحث عن تلك الحال دون سأم أو ملال ... ولا أقصد من وراء ذلك تلميع صورة أو تسويق ذات أو استعراض عضلات ... لكنه باب من القول أحببت من خلاله الإفضاء إلى أحبابي القراء ببعض الهمسات والأفكار التي لا أجد متنفساً لها إلا هذه السطور، ولا أرى معها تفاعلاً إلا على صفحات التواصل الجميلة .

وعلى الرغم من تَطَلُّبي ذلك إلا أنني إذا صرتُ إلى ما أصبو إليه حنَّ قلبي واشتاقت نفسي إلى ما عَهِدَتْ، كعادتي في الحنين الى سالف العهد.. وإن كنت معه على غير ود... على ما قال المتنبي :

خُلِقتُ أَلوفاً لَو رُدِدتُ إِلى الصِبا * لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا

اليوم سافرت الزوجة والأولاد، وخلا لي الجو، وساد الصمت جنبات البيت، وكان من المفترض أن أطير فرحاً لما ذكرت آنفاً من أسباب ،وأهتبل فرصة سانحة ثمينة من يد الدهر، وأن أقبل على كتبي وأوراقي بنهم كبير ... لكن حدث ما لم يكن في الحسبان ... فهذه أذني تتحس تلك الضوضاء التي طالما اشتكت منه ،وتبحث عن صدى الازعاجات التي ما فتئت تتذمر منه ... إنها تصول وتجول من غرفة إلى أخرى ابتغاء شغب الأولاد، وتتطلب أصوات صراعاتهم على لعبهم وأجهزتهم ... وتسعى لتسمع طلباتهم المتكررة وأوامرهم التي لا تنتهي، ومضايقاتهم التي لا حد لها ولا آخِر ... تطن في أذني كموسيقى لا أقدر على وصفها عذوبة وحلاوة ونقاوة وبراءة .

كلماتهم العذبة: يا بابا هات لنا معك كذا وكذا ... يا بابا نريد منك كيت وكيت ... والزوجة تقول : نحتاج أغراضاً وأشياء للبيت ...أشياء أيقنت الآن أنهم أصبحوا وأصبحت ضوضاؤهم ومشاغباتهم جزءاً لا يتجزأ من حياتي، وحتماً لازماً من أحداث ليلي ونهاري ... وإذا غربت عني لبعض الوقت فسيغرب عني تركيزي، ويجفوني استقراري حتى أعهد الحال الجديدة التي صرتها إليها ...

وعلى الفور قفزت إلى الذاكرة قصيدة الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي مر - على ما يبدو - بمثل ما مررت به يوماً؛ فقال قصيدته الرائعة الصادقة التي أسوقها بين يدي كل أب وأم ؛لندرك جميعاً جمال وجود الأولاد في حياتنا، ونعمة حضورهم من حولنا ... وإن شغبوا ... وإن صرخوا ... وإن أثقلوا كواهلنا بما يطلبون ...

أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟* أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولة في توقُّدها؟* أين الدُّمى، في الأرض، والكتبُ؟

أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ* أين التشاكي ما له سببُ؟

أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في* وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟

أين التسابق في مجاورتي* شغفًا، إذا أكلوا وإن شربوا؟

يتزاحمون على مُجالَستي* والقرب منِّي حيثما انقلبوا

يتوجهون بسوق فطرتهم* نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا

فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا* ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا

وهتافهم "بابا" إذا ابتعدوا* ونجيُّهمْ "بابا" إذا اقتربوا

بالأمس كانوا ملءَ منزلنا* واليومَ -ويح اليومِ- قد ذهبوا

ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ* في القلب، ما شطّوا وما قَرُبوا

إني أراهم أينما التفتت* نفسي، وقد سكنوا، وقد وثبوا

وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ* في الدار، ليس ينالهم نصبُ

وبريق أعينهمْ إذا ظفروا* ودموع حرقتهمْ إذا غُلبوا

في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ* وبكل زاويةٍ لهم صَخَبُ

في النَّافذاتِ، زُجاجها حَطَموا* في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا

في الباب، قد كسروا مزالجه* وعليه قد رسموا وقد كتبوا

في الصَّحن، فيه بعض ما أكلوا* في علبة الحلوى التي نهبوا

في الشَّطر من تفّاحةٍ قضموا* في فضلة الماء التي سكبوا

إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ* عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا

دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا* لمَّا تباكَوْا عندما ركبوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا* منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ

ألفيتُني كالطفل عاطفةً* فإذا به كالغيث ينسكبُ

قد يَعجبُ العُذَّالُ من رَجُلٍ* يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ

هيهات ما كلُّ البُكا خَوَرٌ* إنّي - وبي عزم الرِّجال - أبُ

حفظ الله لكم أولادكم وأزواجكم ... وأدام عليهم ظلكم ... وأقر أعينكم بهم ... وجعلكم للمتقين إماماً ....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين