أحكامُ المُعاقين ورعايتُهم في الإسلام (2)

ـــ فاقدو البصر نموذجاً ـــ

مُعاقُون عظماء لهم مشاركات إيجابية في التاريخ الإسلامي:

حَفَل تاريخنا الإسلامي بمعاقين عظماء، لم تمنعهم إعاقاتهم من أن يكون لهم مواقف مجد وعزٍ، ومكانة سامقة في العلوم والمعارف والإبداع والمشاركة والعطاء للمجتمعات المسلمة، ومن هؤلاء ما يلي:

1ــ الصحابي عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه ، وكان أعمى، وفيه نزل قولُه تعالى ــ في سورة عبس في الآية/ 1 ــ معاتباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ). ولَّاه النبي صلى الله عليه وسلم شؤونَ المدينة وقضاءَها عندما خرج للجهاد، وكان هو مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحامل لواء المسلمين في معركة القادسية التي استشهد فيها.

2ـ الصحابي معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وكان أعرج، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، وقال له قبل ذلك، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داوود: : " يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ "، فَقَالَ: " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ".

3ـ الصحابي عَمْرَو بن الجَمُوح رضي الله عنه ، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو نُعيم: أنه كان أعْرَجَ شديدَ العَرَج، وكان له بَنُونَ أربعة مِثْل الأُسُود، أراد الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بَدْر، فذكروا له عَرَجَه وحالَه، فأَذِن له في المُقام، فلما كان يوم أُحُد أرادوا حبسه وقالوا له: إن الله عزَّ وَجَلَّ قد أَعْذَرَكَ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بَنِيَّ يريدون أن يحبِسوني عن هذا الوَجْه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أَطَأَ بِعَرْجَتي هذه الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمَّا أنت فقد عَذَرك الله فلا جِهَاد عليك، وقال لبنيه: ما عليْكم أن لا تمنعوه؛ لعلَّ الله يرزقه الشهادة، فخرج معه فقُتِل يوم أُحد.

4ـ التابعي عطاء ابن أبي رباح رحمه الله، وكان أعورَ العين، أفطس الأنف، أشلَّ اليد، أعرج الرِّجْل، وهو عالم مكة وفقيهها دون منازع، وكان الخليفة عبد الملك بن مروان ينادي في موسم الحج: ألا لا يفتي الناسَ أحدٌ سوى عطاءِ بن أبي رباح.

5ـ إضافة إلى هؤلاء المذكورين، كان هناك آخرون من المعاقين العظماء الكرام الذين اشتُهروا بأوصافهم، وشاركوا في نشاطات علمية، ومعرفية، واجتماعية، وطبية، منهم المحدِّث: الترمذي الذي كان كفيف البصر، والمحدِّث عاصم البصري، المعروف بالأحول. وعبد الحميد بن عبد المجيد الأديب اللغوي، المعروف بالأخفش. والمحدِّث حاتم بن عنوان، المعروف بالأصم. والقارئ الحافظ النسَّابة عبد الرحمن بن هرمز المعروف بالأعرج. والمحدِّث الفرَضي سليمان الأسدي، المعروف بالأعمش. والحافظ القارئ المحدِّث علي الهُزَلي، المعروف بالأفطس. والأديب اللغوي الشاعر معاوية بن سفيان، المعروف بالأعمى. والأديب اللغوي المفسر العُكْبُري، وكان أعمى.

ومن العلماء غير المبصرين أيضاً: الشاطبي المقرئ، وابن سيده اللغوي، وذكر القفطي: أن أبا الحسن علي بن إبراهيم بن بَكْس المكفوف كان طبيباً متقناً لصناعة للطب ومدرساً له في البيمارستان، أيْ: المستشفى العضدي، وكان في حين الحاجة لمعرفة الألوان في المرضى أو بولهم يستعين بمن معه من تلاميذه المبصرين. وكذلك كان ابن مَكِين البغدادي الطبيب المكفوف.

ومن مشاهير القرن السابع الهجري الأصولي والفقيه الحنفي زين الدين علي بن أحمد الآمدي، الذي كان فاقد البصر، وابتكــر طريقة تصلــح نـــواة للقـــراءة الخاصة بالمكفوفين، تقترب من طريقـــــة القراءة النافـــرة التي اخترعها " برايل "، وكان يتقن عدة لغات.

رعاية المُعاقين عبر التاريخ الإسلامي:

حظي المعاقون على تنوع إعاقاتهم على رعاية خاصة من الحكام المسلمين ومن المجتمعات الإسلامية، وذلك في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، وذكروا: أن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، المتوفى في سنة 88 هـ الموافق 706 م ، هو أول من بنى ما يطلق عليه اليوم: " دور الرعاية الاجتماعية ". كما بنى لهم المستشفيات الخاصة التي كانت تسمى: " البيمارستانات "، فما من مدينة إسلامية إلا وفيها هذه الدور والمستشفيات لرعاية أصحاب الاحتياجات الخاصة، وكان يصرف لهم الطعام والشراب والعلاج من أوقاف المسلمين وأموال حكامهم وأغنيائهم الخيِّرين، كما كانت تُصرف الرواتب للموظفين فيها وللأطباء ونحوهم ممن يقومون على رعاية هؤلاء المعوقين. كما كان هؤلاء الخيرون يخصصون خادماً للمقعد، أو قائداً لكفيف البصر ليعينه على قضاء حاجاته، ويصحبه حيث يريد، أو يقرأ له بعض الكتب والمؤلفات.

ومن الطريف أنه كانت تتم في تلك المستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية معالجةُ بعض المعاقين بإنشاد القصائد الدينية، وربما بالموسيقى الهادئة، أو الغناء اللطيف حين اللزوم، كما كانوا يخرجونهم إلى ساحات واسعة فيها أحواض من الزرع تعجُّ بأنواع الرياحين، يطوفون حولها، ويجلسون قربها، ويمتعون أنفسهم برؤياها، أو شم شذاها...

كما ألفت العديد من الكتب تتحدث عن المعاقين وأحوالهم، وأحكامهم، وقصصهم، ونُكَتِهم، وأمثالهم، وحِكَمهم، وأشعارهم، وذكائهم، ومن ذلك: " كتاب البُرْصان والعُرْجان والعُمْيان والحُولان " للجاحظ. وكتاب: " نَكْتُ الهِيْمان في نُكَت العُمْيان " لصلاح الدين الصفدي. والهِمْيان: خيط غليظ نسبياً كان يشد به السروال قديماً، وقد يُقال له: تُكَّة، ويقوم حزام البنطال مقامه اليوم.

أبرز الأحكام المتعلقة بالمعاقين العميان أو المكفوفين:

هناك العديد من الأحكام الشرعية ذات الصلة بالمكفوفين، ومن أبرز ذلك ما يلي:

أولاً:ـ مسُّ وحملُ الصحف المتضمنة الكتابة بطريقة " برايل " للمكفوفين، المكتوب فيها سور القرآن الكريم أو بعض آياته. 

ومن المعروف أن طريقة " برايل " نسبة إلى رجل فرنسي اسمه : " لويس برايل "، المولود في 4 يناير عام 1809 م، وقد بصره في بدايات عمُره، مما جعله يسعى إلى اختراع طريقة لمساعدته على القراءة، فاخترع نظاماً كتابياً مُنَقَّطاً في صفحات ورقية خاصة، يساعد المكفوفين على القراءة عن طريق حاسة اللمس لتلك النقاط المثقَّبة النافرة.

أما كتابة آيات القرآن بطريقة " برايل " فإنها تُمثِّل إنجازاً حضارياً كبيراً، وهي نعمةٌ من أجلَّ نعم الله على المكفوفين. وليس هناك ما يمنع منها شرعاً، إذا كانت تلك الكتابة موثوقة وصحيحة، وبطبيعة الحال لا يقال لهذه الصفحات وما فيها من كتابة: إنها مصحف أو قرآن، وهي لا تأخذ حكم المصحف المكتوب باللغة العربية؛ لأنها مكتوبــة بنقاط ورموز نافرة تغايـــر الحروف والكلمــات العــربيـة، ومن المقرر أنه لا يقال للقرآن: قرآناً إلا إذا كتب وقُرِئ باللغة العربية. قال الله تعالى في سورة يوسف / 2 : ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً ). وفي سورة الأحقــاف/ 12 : ( قرآنـاً عربياً غيرَ ذي عِوج ). وفي سورة الشعراء/192 ـ 195 : ( وإنه لتنـزيل رب العالمين نزل به الروحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ).

وبناء على هذا: يجوز مسُّ هذه الصحف حال الجنابة، وحال الحيض، وحال النفاس، وحال عدم الوضوء ـ أيْ: حال الحدث الأكبر، وحال الحدث الأصغر بحسب تعبير الفقهاء ـ ولا تجب الطهارة ولا تشترط لمس تلك الصحف المكتوبة بطريقة " برايل " النافرة النقاط؛ لأنها لم تكتب بحروف وكلمات عربية، ولا يقال للمكتوب فيها: قرآنٌ، وإنما الممنوع مس القرآن المكتوب بالحروف العربية.

أما قوله تعالى في سورة الواقعة /79 : ( لا يمسه إلا المطهرون )، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". الذي رواه مالك والدارمـي ـ وهو حديث حسن ـ فيراد بهما: القرآن، أو المكتوب في المصحف باللغة العربية، كما يقول فقهاء المذاهب الأربعة، ومنهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله.

ثانياً: أما قراءة القرآن من خلال لمس صحف " برايل "، ففيها تفصيل على النحو التالي: 

1ــ يجوز لمن به حدث أصغر، أيْ: غير المتوضئ، أن يلمس صحف " برايل "، المكتوب فيها القرآن الكريم بنقاط نافرة كما تقدم بيان هذا آنفاً.

كما يجوز له أن يقرأ القرآن في هذه الصحف وهو غير متوضئ، كما لو كان يقرأ من غير أن يمس المصحف وهو غير متوضئ؛ لأن فقهاء المذاهب الأربعة، ومنهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله، لا يشترطون الوضوء في قراءة القرآن لمن يقرأ من غير أن يمس المصحف؛ للحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا ".

2ــ يجوز لمن به حدث أكبر، كجنابة، وحيض، ونفاس، أن يلمس صحف " برايل "، المكتوب فيها القرآن الكريم بنقاط نافرة كما تقدم بيان هذا آنفاً. 

لكنْ لا يجوز لمن به حدثٌ أكبر قراءةُ القرآن سواء من صحف " برايل " أو من المصحف، كما هو مقرر عند فقهاء المذاهب الأربعة، ومنهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله؛ للحديث الصحيح الآنف الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً ".

ثالثاً: مما ذكره الفقهاء: أنه يجوز للأعمى أن يجتهد بحسب طاقته واستطاعته في بعض المسائل الشرعية، كما لو اشتبه عليه الماء الطاهر بالنجس، ويجتهد في دخول وقت الصلاة، وفي الاتجاه نحو القبلة، وفي وقت الإفطار والإمساك عند الصوم، قال الله تعالى في سورة التغابن/16: ( فاتقوا الله ما استطعتم ). وقال أيضاً في سورة البقرة/286: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ).

رابعاً: بجواز أذان الأعمى إذا علم بدُخول الوقت، كما كان يفعل الصحابي الأعمى عبد الله بن أمِّ مكتوم رضي الله عنه، مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم.

خامساً: تجوز إمامة الأعمى بالناس في الصلوات الخمس وفي صلاة الجمعة؛ لأنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم استخلَفَ حينما خرج في بعض حروبه، عبد الله بن أم مكتوم ليؤمُّ الناس، أمَّا قول الحنفية بالكراهة فالكراهة هنا هي كراهة تنزيهيَّة.

سادساً: يجبُ الحجُّ على الأعمى إذا وجد زادًا وراحلة وقائدًا يقودُه؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران/97 : ( ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً).

سابعاً: يجوز زواجُ الأعمى، وطلاقه، وتزويجه غيرَه، وتُشرع معاقبته حال تعدِّيه، ومعاقبة المعتدي عليه، كما يجوز بيعُه، وشِراؤه، واستئجارُه، وهِبَتُه لغيره، وتوكيله، ووصيته، ونحوُ ذلك من المعاملات المالية....إلخ، إذا لم يوجد فيها غش ولا غرر ولا شيء محرَّم؛ لأن منعه من ذلك فيه حَرَجٌ ومشقَّة شديدة تتنافَى مع التشريع الإسلامي الذي جاء للتيسير على المكلَّفين. 

ثامناً: يثبت لفاقد البصر الخيار والرجوع عن الصفقات في المعاملات المالية، سواء كانت بيعاً أو إجارة ونحوها؛ لأنَّه قد يخدع.

تاسعاً: تقبل شهادة الأعمى فيما سمعه مما يكون مؤكداً؛ لئلا تضيع الحقوق على أصحابها. 

الخاتمة: 

هذه أبرز أحكام الإسلام ومواقفه الإنسانية في الرعاية المتنوعة التي حظي بها المعاقون وبخاصة المكفوفين، وهي تدل على شمول أحكام هذا الدين ونزعته الإنسانية؛ لأنه جاء رحمة للعالمين.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين