نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (29)

حوارات حول الكتاب

 

ـ قال المعلق عني: 

"أنا أطالبه أن يأتي بكلام للمتسرعين بالتكفير - الشيخ ابن باز أو غيره من مشايخ السلفيين المعاصرين لأنه يشير إليهم بهذه التهمة - يجعلون الحلف بغير الله مطلقاً يعد من الشرك الأكبر المخرج من الملة!!، وأنى له ذلك!". 

وقال: [قال الإمام تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية - نوَّر الله روحه وقدَّس ضريحه -: "وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته لا ينعقد يمينه ولا كفارة في الحلف بذلك، والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور"]. 

أقول: 

أنا لم أشرْ في هذا البحث إلى أحد من المشايخ المعاصرين بعينه قط لا من قريب ولا من بعيد، وبحثي في هذا الموضوع هو لشدة أهميته وحاجة المسلمين إليه، وخاصة في هذه الأوقات العصيبة حيث تنتشر أفكار التكفير. 

لم أقلْ قطُّ ولم يأت في خاطري إطلاقا أن بعض المشايخ المعاصرين يجعلون الحلف بغير الله مطلقا يُعد من الشرك الأكبر المخرج من الملة!، وهذا محض تخيل من قائله، وأستغربُ ممن يكتب ـ دون أن يدري أو أن يقصد ـ معلقا على ما يتصور أنه في ضمائر الناس وكأن الله عز وجل يطلعه على الغيب!. 

من يستحضرُ في قلبه عظمة الله جل وعلا وأنه وحده هو علام الغيوب ولا يغفـُل عنه فإنه لا يفعل ذلك. 

لا أدري ما فائدة النقل عن ابن تيمية صاحب الضريح المقدس! ـ عند الأخ المعلق ـ بأن المسلمين قد اتفقوا على أنه مَن حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته لا ينعقد يمينه ولا كفارة في الحلف بذلك!، ولا أدري كيف ينقل الأخ المعلق مثل هذه الكلمة التي فيها دعوى الاتفاق والواقع بخلاف ذلك!، وكيف تصح دعوى الاتفاق والإمام أحمد وفقهاء الحنابلة يستثنون الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه يمينا منعقدة واجبة التكفير عنها في حالة الحنث!، ومُفاد الإطلاق الوارد في تلك الدعوى أن الحنابلة ليسوا من المسلمين!، ومن الغريب أن قائلها هو من الحنابلة الذين لا يغيب عنهم كلام الإمام ابن حنبل!. اللهم غفرا. 

وابن تيمية رحمه الله وغفر له فقيه حنبلي لا يغيب هذا عنه، ولكن قد يكتب الإنسان كلاما يريد أن ينبه إلى ما فيه من استثناء أو استدراك أو نحو ذلك فيسهو عنه، والله أعلم. 

ـ إذا وقف التكفيريون على نص فيه الحكم على مرتكب معصيةٍ من المعاصي بأنه قد كفر أو أشرك طاروا به فرحا، واتخذوه حجة للحكم على كثير من المسلمين بالكفر والشرك، وأكثرهم ـ حسب الظاهر ـ معظمون للإمام أحمد وللحنابلة، فعندما نجد نصا نبويا فيه الحكم على من يرتكب أمرا ما بالشرك ثم نجد الإمام أحمد والحنابلة على خلاف ظاهر النص فما من شك في أن إيراد هذه المسألة في غاية الأهمية، لعل أولئك التكفيريين يراجعون طريقة فهمهم للنصوص، ولعلهم إذا رأوا أناسا آخرين من المسلمين أخطؤوا في فهم نص آخر يقولون إنهم أخطؤوا ولا يحكمون عليهم بالردة والخروج من الملة. 

ـ قول المعلق عن ابن تيمية "نوَّر الله روحه وقدَّس ضريحه" عجيب وغريب، فتقديس الضريح ليس من طريقة السلف، ولو قاله بعض الأشاعرة أو الصوفيين عن أحد أئمتهم لوجدتَ من بعض الناس الرميَ بالابتداع أسهل شيء، وهذا إذا لم يصلوا بهم إلى الرمي بالشرك أو الوقوع في ذرائع الشرك. 

* ـ قال الأخ المعلق الثالث: 

"يدَّعي صلاح الدين بن أحمد الإدلبي ـ حسب علمه ـ أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم ليس بشرك". 

أقول: 

هذا القول بهذا الإطلاق هو محض تخيل من قائله، وهو بخلاف الواقع، فأنا لم أقل إن دعاء الأموات والاستغاثة بهم ليس بشرك بهذا الإطلاق!، بل قلت: "من دعا غير الله معتقدا أنه يملك النفع والضر من ذاته فقد أشرك، ومن دعا غير الله معتقدا أنه لا يملك من ذاته شيئا وأنه لا يدعوه إلا من حيث إن الله تعالى أذن له بشيء من التصرف في بعض الأشياء: فهذا لا مجال للحكم عليه بالشرك، والخلاف معه هو في المشروعية". ويبدو أن المعلق ـ سامحه الله ـ لا يملك القدرة على فهم الفرق بين التعبيرين. 

ثم قال: 

"يدَّعون أن غير الله من الأولياء والصالحين الأموات يستطيعون قضاء الحاجات للمضطرين، وهكذا يطلبون من المخلوقين أمورا لا تـُطلب إلا من الله القادر على قضائها، فهم يتخذون آلهة مع الله، فهل هناك أعظم من هذا الشرك؟؟!!!". 

أقول: 

لا بد من التفريق بين من يعتقد أن أولئك الذين يدعونهم ويطلبون منهم يملكون من أنفسهم العطاء والمنع وبين من يعتقد أنهم لا يملكون من أنفسهم شيئا إلا ما منحهم الله وأذن لهم: 

فالصنف الأول مشركون، وهكذا كان مشركو الجاهلية الذين يدْعون الأوثان ويعتقدون أن المصوَّرين بها يملكون العطاء والمنع والضر والنفع، وأنهم يملكون الشفاعة كذلك ويقولون هم شفعاؤنا عند الله. 

والصنف الثاني لا نستطيع أن نقول إنهم مشركون شركا مخرجا من الملة، لأنهم لا يعتقدون فيمن يدعونهم أنهم يملكون شيئا من أنفسهم، لا عطاء ولا منعا ولا ضرا ولا نفعا ولا شفاعة. 

ـ إذا وقع المسلم في شدة وكرب فيجب أن يسأل اللهَ تعالى وأن يكون قلبه متعلقا بالله لكشف ما نزل به، لأنه هو وحده مَن يملك ذلك، قال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا}، ولا يصح لعاقل أن يرجع بعد أن يكشف الله جل وعلا عنه الكرب إلى شيء من الشرك في الربوبية أو الإلهية، قال تعالى {قل من ينجِّيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخُفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجِّيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون}. ما في هذا شك ولا ريب. 

لكن إذا توجه العبد إلى الله تعالى بالدعاء لكشف الكرب والضر وتوجه إلى عباد الله الصالحين ليشفعوا له عند الله ويسألوه له كشف ما نزل به فهذا ليس من الشرك، لأنه ليس فيه إشراك المخلوقين مع الله تعالى في الربوبية ولا الإلهية. 

ـ يحتج الذين يطلبون من الأولياء والصالحين الأموات قضاء بعض الحاجات بمعنى أن يشفعوا لهم عند الله ويسألوه جل وعلا لهم كشف ما نزل بهم بعدد من الأحاديث النبوية: 

منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وابنُ حنبل في مسنده عن أبي هريرة وعن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس، فيبلغ الناسَ من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتمِلون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟!. فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم. فيأتون آدم. فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟. فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا، فيقول: اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم، فيقول: اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى، فيقول: اذهبوا إلى عيسى ابن مريم. فيأتون عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد. فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنطلقُ، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع". 

ومنها ما رواه البخاري في صحيحه والطبري في التفسير وابن خزيمة والطحاوي في مشكل الآثار وابن منده في الإيمان من طريقين عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد". صلى الله عليهم وسلم. 

ففي روايات هؤلاء الصحابة الأربعة دليل على أن الناس يوم الكرب العظيم يقولون لبعضهم: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟. فيأتون آدم، فيدلهم على نوح، فيدلهم على إبراهيم، فيدلهم على موسى، فيدلهم على عيسى، فيدلهم على محمد، صلوات الله وسلامه عليهم، فيشفع لهم إلى ربهم، فيقبل الله تعالى شفاعته فيهم. وفي حديث ابن عمر "فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد". وهذا يعني أن توجُّه المكروب إلى من يشفع له عند ربه لا يُعد إعراضا عن الله تبارك وتعالى. 

ومن تلك الأحاديث النبوية: أن الصحابي عثمان بن حُنيف علـَّم رجلا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يدعوَ ويقولَ في دعائه "يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه فتـُقضى لي"، وكان سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقتها قد انتقل إلى الرفيق الأعلى. []. 

انظر إن شئت بحثا لكاتب هذه السطور عنوانه: حديث "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة". وهو صحيح الإسناد إلى عثمان بن حنيف. 

ـ يرى المحتجون بالأحاديث المتقدمة أنه لو كان الله تعالى يغضب على من يتوجه عند شدة الكرب إلى عبد من عباده الصالحين ويستغيث به ليشفع له عنده لاشتد غضبه على الناس في ذلك اليوم الشديد الكرب، لأنهم لا يبدؤون بالتوجه إليه سبحانه لكشف الكرب والشدة التي نزلت بهم، وأنه لو كان في هذا شرك لنبههم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحذروهم ولمَا استجاب الله تعالى شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم. 

قد يكون هذا الاستدلال وجيها مقبولا عند قوم، وقد يكون غير ذلك عند آخرين، ولكنك لا تستطيع أن تتهم أهل هذا الاستدلال بأنهم ليس عندهم من النصوص ما يستدلون به وينطلقون منه، كما لا تستطيع أن تتهمهم ـ حتى ولو غلب على ظنك أنهم مخطئون ـ بالردة والشرك الأكبر المخرج من الملة. 

ـ قد يقول قائل: لكنْ هنالك فرق كبير، وهو أن الأنبياء في موقف الحشر يوم القيامة أحياء وهم في هذا اليوم من الأموات. 

فالجواب: أن الله تعالى لا يقبل الشرك لا في الدنيا ولا يوم القيامة، ولا ما إذا أشركتَ معه في الربوبية أو الإلهية شريكا حيا ولا ميتا، ولو كان هذا شركا لمَا قبله الله تعالى، وكون المستشفَع بهم من الأحياء أو الأموات لا ينقل حكم المسألة من الإباحة إلى الشرك المخرج من الملة، لأن الإشراك مع الله في الربوبية أو الإلهية لا تختلف حقيقته فيما إذا كان مَن تمَّ إشراكُه مع الله حيا أو ميتا، لكنه قد ينقل حكم المسألة من الإباحة إلى التحريم إذا أقام القائل بذلك دليلا على صحة قوله. 

ثم إن حديث عثمان بن حنيف صحيح الإسناد، وفيه تعليمه للرجل أن يقول في دعائه "يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه فتـُقضى لي"، وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

وإذا كان ذلك كذلك فهذه المسألة ليست من باب الشرك المخرج من الملة، وإنما هي داخلة في باب المشروعية وعدم المشروعية، فمن أراد الوقوف على الحكم الفقهي فيها من حيث الجواز أو خلاف الأولى أو الكراهة أو التحريم فليبحث عنها وعن أدلتها في مظانها من الأبحاث الفقهية. 

وفي هذا الباب تأتي قضية الإمام أحمد عندما ضل الطريق وقوله "يا عباد الله دلونا على الطريق"، وأقره على ذلك فقهاء الحنابلة وسائر فقهاء الإسلام. 

ـ مع كل هذا لو أن المعلق قال عمن يختلف معهم بأنهم مخطئون مثلا لكان الأمر أسهل. 

بعض الناس ربما يردد ما سمع دون أن يفكر بوجه الاستدلال من الأدلة التي ذكرها ولا بمناقشة وجه الاستدلال، وربما يعتقد أن ما استدل به هو الدليل الذي لا دليل غيره في المسألة، وربما يقول إن البحث في وجه الاستدلال ومناقشته بدعة!، ولا مانع عنده من أن يحكم على كثير من المسلمين بالشرك الأكبر إذ يقول "فهم يتخذون آلهة مع الله فهل هناك أعظم من هذا الشرك؟!". 

أقول: ارجع أيها الأخ الكريم إلى كتيب "نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة" واقرأه بهدوء وتأمل وتعمق، ثم ناقش الأدلة مناقشة علمية هادئة في ضوء نصوص الكتاب والسنة، ثم أدلِ بدلوك من جديد ـ بعد ذلك ـ في الحوار، والعلم رحم بين أهله، ويستفيد بعضنا من بعض. 

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين