تعدد الزوجات بين التشريع الرباني والإلغاء الإيديولوجي (3)

حكم تعدد الزوجات في ظل الحروب والثورات المعاصرة

ينبغي أن نقرر شرعا أن الأصل في تعدد الزوجات الإباحة للقادر عليه، قدرة مادية ومعنوية، ولا أحسب ذي حجى ممن له إلمام ولو يسير بالشريعة يشاكس ويجادل في أصل هذا الحكم الشرعي. لكن قد يعدل عن الحكم الأصلي لاعتبارات معقولة، ومقدرة شرعا، بالنظر في واقع الحال، أو باعتبار المآل، وذلك مما ينشأ عن الحروب والثورات، التي تتلف كثيرا من الرجال، فتزهق أرواحهم ظلما وعدوانا، كما هو الحال اليوم في سوريا والعراق واليمن وفلسطين وأفغانستان وغيرها من بلدان العالم منهم الأقليات المسلمة في ميانمار وغيرها، فتخلف أرامل ويتامى مشردين، يعانون من عضة الجوع، وألم الفقر، وفتك الأمراض. ففي هذه الحال يتغير الحكم الشرعي من الإباحة، فقد يصبح بحسب حالة الفرد (الرجل) من اليسر والعسر إما واجبا في حقه أو مندوبا ندب تأكيد، لأن التعدد لا يصبح فقط إحصانا للمرأة والبرور بها، وإنما هو خدمة ورعاية اجتماعية للمرأة وأطفالها، وبرورا بهم، والقيام على شؤونهم، وتقديم كل ما يستطيعه الرجل من أجل رعاية أسرة بكاملها. ودليلي على ذلك، ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت يا جابر؟" فقلت: نعم"، فقال: "بكرا أم ثيبا؟". قلت:بل ثيبا. “قال: "فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك." قال: "فقلت له: "إن عبد الله هلك، وترك بنات، وإني كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: "بارك الله لك." أو قال: "خيرا." وقد ترجم له البخاري بـ(باب عون المرأة زوجها في ولده).

ففي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة والخير، إقرار لاختيار جابر رضي الله عنه لزواجه من ثيب مراعيا في ذلك مصلحة أخواته.

قال ابن حجر في (فتح الباري): "وفيه (أي الحديث) فضيلة لجابر لشفقته على أخواته وإيثاره مصلحتهنَّ على حظ نفسه، ويؤخذ منه أنه إذا تزاحمت مصلحتان قدِّم أهمهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوَّب فعل جابر ودعا له لأجل ذلك، ويؤخذ منه الدعاء لمن فعل خيرا وإن لم يتعلق بالداعي، وفيه سؤال الإمام أصحابه عن أمورهم وتفقده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم، وتنبيههم على وجه المصلحة، ولو كان في باب النكاح وفيما يستحيا من ذكره، وفيه مشروعية خدمة المرأة زوجها، ومن كان منه بسبيل من ولد وأخ وعائلة، وأنه لا حرج على الرجل في قصده ذلك من امرأته، وإن كان ذلك لا يجب عليها..." (فتح الباري 9/123).

فكذلك الشأن في حقِّ من يتزوج امرأة أرملة ولها عيال، نكبتهم الحرب، وشردهم الطواغيت، فخربوا ديارهم وضيعاتهم ومتاجرهم، وفتك المستبدون بزوجها، أليست هذه المصالح معتبرة في الشرع، وأقوى وأقوم وأهدى سبيلا، ثم ألا يشملها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالخير والبركة؟ بلى إنها كذلك.

فكل هذه العوامل توجب تغيُّر حكم تعدد الزوجات بحسب الأفراد والبيئات التي تعيش الحروب أو الثورات، من أصله الذي هو الإباحة، إلى الوجوب أو الندب، ويمكن للحكام الجدد إذا نجحت الثورة واستقرت الأوضاع أن يصدروا قوانين تلزم الناس بذلك بناء على المصلحة، فالتصرف على الرعية منوط بالمصلحة، وتولي الولايات منوط أيضا بالمصلحة. والأمر لله من قبل ومن بعد.

وختاما فإن تعدد الزوجات لا يمثل مشاكل المغاربة، ولا المسلمين في أيِّ دولة، ولا هو واقف في وجه التنمية، ولا هو معوق للاقتصاد الوطني، ولا هو حاجز للرقيِّ بالتعليم والطب وبناء الحضارة والعمران، ولا هو أيضا من أمهات مشاكل المرأة ومعاناتها الحقيقية.

نعم هو مشكلة نفسانية للأيديولوجيين والدماغوجيين وللتجار بقضايا المرأة. وصدق الله العظيم إذ قال:"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

الحلقة الثانية هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين