تعدد الزوجات بين التشريع الرباني والإلغاء الإيديولوجي -2-

 

تعدد الزوجات وقاعدة تقييد المباح

من أغرب ما نسمع ونقرأ لهؤلاء الأيديولوجيين وتجار السياسة الفاشلة، أن يتمسك بعضهم، بقاعدة تقييد المباح، وهي إحدى القواعد المهمة في الفقه الإسلامي. حيث يضعونها في غير موضعها، ويلوون عنقها ليا، مثلما يفعلون ببعض النصوص الشرعية من قرآن وسنة. وهذا ينبئ عن فهم سقيم، يتوخون من ذلك نصرة مقالاتهم وآرائهم. وقد دندنوا حول هذه القاعدة، طالبين من ورائها إلغاء تعدد الزوجات البتة، ذلك أن حسب زعمهم أن تعدد الزوجات ترتبت عنه مفاسد اجتماعية، فلا مفرَّ منها إلا بإلغاء تشريعه ونظامه، استنادا منهم إلى (قاعدة تقييد المباح). والحق أن هؤلاء ليسوا من الفقه وأصوله من قبيل ولا دبير، ولا في العير ولا النفير، ودعواهم هذه لا تنتهض لأمور: 

1. أن قاعدة تقييد المباح لها تعلق باعتبار المآل، وأنها –أيضا- من قواعد الموازنة، ومعنى ذلك أن المباح إذا ترتبت عنه مفسدة ظاهرة ومتيقن منها، وأصبح لا يؤدي وظيفته ولا المقصود منه، فحينها ينبغي تقييده.

2. أن الحكم الشرعي وإن كان مباحا لا يحق لأحد مهما علت سلطته، ومهما كان شأنه أن يوقف أو يلغي حكما شرعيا، شرعه الله لعباده تفضلا ومصلحة لهم، سواء أدركوا مصلحة ذلك الحكم أو لم يقعوا عليها، ولم يظفروا بها. فهذا مقتضى الإيمان الدال عليه قوله تعالى: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا]. (الأحزاب: 36) فلا يجوز أن نقول: آمنا، وفي نفس الوقت نقول: عصينا، فهذا محض العبث والنفاق. 

3. أن الحاكم أو من ينوب عنه بعد استشارة العلماء الأتقياء، والخبراء الأمناء، والمختصين النـزهاء يجوز له تقييد بعض المباحات، إذا خولف بها عن مقصدها، وعادت عليه بالإبطال والنقض، وليس تقييد المباح موكولا إلى الأفراد. فالحاكم ونوابه، ومجالس العلماء، ومجالس الأمة وغيرهم من ذوي الشأن، هم الذين لهم صلاحية تقييد المباح لظروف معينة. فهم بمثابة الأبوين إذا منعا طفليهما من بعض المأكولات التي أفرط في أكلها حتى أضرت به، فإن هذا المنع وقائي، كما أن ذلك التقييد ظرفي وآني استصلاحي. لأن التقييد -في نظري- أنواع، منها ما يكون باعتبار مآل الفعل، ومنها ما يكون باعتبار حال المكلف في خاصة نفسه، من القدرة على الفعل أم لا، ومنها ما يكون باعتبار الحال العامة للمكلفين من اليسر والعسر، وبحسب زمنهم وأحوالهم في معاشهم وأخلاقهم ودينهم، حتى لا ينشأ عن استعمال المباح الشطط والزلل، فيخرج به عن مقصوده.

وهل من المعقول أن نقيد أمرا لا يمثل شيئا في نسبته المئوية، وليس من اهتمامات الناس، بل لا يساوي شيئا أمام فساد تعدد الخليلات، وتجار الدعارة والفسق والفجور. هل يعقل هذا يا دعاة العلمانية أليس فيكم رجل رشيد، أو امرأة رشيدة؟!. 

4. ثم ينبغي أن نفرق بين التقييد والإلغاء، فأما التقييد فقد جرى العمل به منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم، فيدخل بذلك في السياسة الشرعية، وأما الإلغاء فلا أحد يقول به من علماء المسلمين، لأن ما أباحه الله لعباده، فلا يملك أحد كائنا من كان إلغاءه البتة، وإلا عد آثما فاسقا.

5. أن الموازنة السليمة تثبت أن تعدد الزوجات أقل بكثير من تعدد الخليلات، الذي لا حد له ولا حصر، وأن مصالحه أقوم وأطهر. ولو فرضنا جدلا أن التعدد تنشأ عنه مفاسد كما قالوا، فهلا بينوا لنا ذلك بإحصائيات ودراسات نـزيهة، وبرهنوا على ذلك بأدلة قطعية، لا ريب فيها. ومادام الأمر عاريا عن كل البراهين والحجج. فقد ثبت بدون منازع أن القول بإلغاء تعدد الزوجات استنادا إلى قاعدة تقييد المباح قول باطل.

الحلقة الأولى هــــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين