عشت مع آية: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)

{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا} الفرقان: 63، قال بعض المفسرين: أي متواضعين. وقال بعضهم: الهون هو السكينة والوقار. ووجدت لها تفسيرا مالت إليه نفسي وإن كان كل ما سبق يقبل الصحة من وجهة نظري.

 

وجدت من معانيه الخفة على ظهر هذه الحياة...كأنه يجتازها سريعا حتى يعبرها كالبرق الخاطف. كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن هين لين) وروي كذلك مرسلا عن مكحول أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ) [البيهقي في "الشعب" (8128)].

 

كثير ممن أعرفهم سواء ممن لقوا ربهم في السنوات والأشهر الأخيرة، أو ممن ما زالوا يعيشون بيننا أحسبهم يتمثلون هذا المعنى.

 

لطاف خفاف... كأنهم جاءوا إلى هذه الدنيا ضيوفا... ليس عندهم وقت لجرح غيرهم، أو للإثقال على أنفسهم. سمحة نفوسهم، هينة في جنب الله آلامهم، يخافون على العصاة من عذاب ربهم أكثر من خوف العصاة على أنفسهم.. ويفرحون للخير الذي يصيب غيرهم كأنه أصابهم.

 

أصاب الربيع بن خثيم حجرا في رأسه فانفجر منه الدم...فأقبل الناس عليه يعصبون رأسه وهو مشغول بالدعاء لمن أصابه بالحجر يدعو له ويقول: اللهم اغفر له فإنه لم يتعمدني.

وابن عباس كان يقول عن نفسه: وأفرح للغيث يصيب بلدا من بلاد المسلمين وليس لي فيه مرعى ولا سائمة.

 

وكثيرا ما كان يروى عن بعض الصالحين قولهم: الأمر أهون من هذا. أي لا وقت في حياتنا لما يريد بعضهم أن يجرنا إليه.

هكذا هم...لا وقت عندهم لتلويث الثوب، أو تقسية القلب، أو التيه عن الدرب.

 

بعض من ماتوا في الأيام الأخيرة ممن نعرفهم لم أجد وصفا لهم إلا ما ذكرت آنفا:

خفاف لطاف، لم يكونوا أبناء دنيا...بل كانوا وكأنهم جاءوا لحاجة، قضوها ثم انصرفوا..

 

وكأنهم يقولون قولة أبي حامد الغزالي رحمه الله عند موته:

قد ترحلت وخلفتكم *** لست أرضى داركم لي وطنا

أنا عصفور وهذا قفصي*** كان سجني وقميصي زمنا

 

واشوقاه إلى قلب يعيش الحياة بهذا الشعور. شعور الضيافة، شعور البساطة، شعور ارتباطه بعالم آخر ليس عنده وقت لغيره.. تماما كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه كما في الحديث القدسي: (أَغْبَطُ الناسِ عندي مؤمنٌ خفيفُ الحاذِ ، ذو حَظٍّ من صلاةٍ ، وكان رزقُه كَفافًا ، فصبر عليه ، حتى يَلْقَى اللهَ ، وأَحْسَنَ عبادةَ ربِّه ، وكان غامِضًا في الناسِ ، عُجِّلَتْ مَنِيَّتُه ، وقَلَّ تراثُه ، وقَلَّتْ بَوَاكِيهِ.) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم ولم يخرجاه، وعلَّق الذهبي بقوله: إلى الضعف هو.

 

يا لحظ هؤلاء الذين دخلوها خفافا وغادروها خفافا... لم يشغلهم جمال الزروع، ولا فتنة المنظر عن عبور القنطرة سريعا...حيث تنتظرهم المناظر الأخلب، والزروع الأنضر، والصحاب السابقون.

تخففوا يرحمكم الله... فالأمر أسرع من أن نتحمل فيه آثاما كثيرة.. لا تتناسب مع أعمارنا القصيرة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين