هدنة على دخَن

 

        لا ريب أن جُلّ السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم كانوا سعداء بخبر الهدنة ووقف الأعمال القتالية في عموم سوريا مع بداية العام الجديد، وقد يكون جزءٌ كبير من أسباب ذلك يعود إلى حالة الإنهاك التي وصل إليها الطرفان بعد ست سنوات من الموت والقتل والتدمير الممنهج، وتداخلِ المصالح العالمية في أتون المعركة الدائرة، مما جعل السوريين يدفعون فاتورة حرب بالوكالة، تديرها وكالات استخبارات دولية وإقليمية على حساب دمائنا وأرضنا وعرضنا.

       ولكن، وبعد كل ما سبق، هل اقتنع السوريون أنفسهم أن معركتهم المقدسة ضد أنفسهم يجب أن تتوقف؟

      أعتقد جازما أن الأمر لو تُرك للسوريين لحلّوا مشكلاتهم، ووصلوا إلى صيغة توافقيةٍ ما تُرضي جميع التيارات قبل أن تتدخّل الدول الاستعمارية، أو الدول ذات المشاريع التوسعية، أو تلك التي تحاول تصدير ثورتها ومعتقداتها إلى العالم ولو على حساب الدماء والتهجير والقتل والتدمير، بل أجزم أن فرعنة النظام وتغوُّلَه في بداية الثورة، وانتهاجه سبيل العنف المفرط ما كان ليتم لولا ثقته العمياء بداعميه الإقليميين والدوليين، وإيمانه المطلق بغضّ الدول الكبرى طرْفها عن مجازره وجرائمه وانتهاكاته.

       لذلك، فإن مشروعات هذه الدول تختلف عن مشروعات السوريين، ففي حين يسعى السوري لوقف شلال الدم في بلده، والسعي لتثبيت الهدنة، ومحاولة استرجاع الأمن المفقود، تحاول هذه الدول تثبيت امتيازاتها، وتأكيد حضورها، وتأمين مصالحها المستقبلية في هذا البلد الممزق؛ ومن ثَمّ فإن موقف هذه الدول قد يختلف ويتباين مع موقف أصحاب الأرض المُكتوين بالنار المصطلين بالأتون.

       لا مراء في أن الحالة السورية لن تدوم إلى الأبد، ولن تمتد إلى ما لا نهاية، بل إن المؤشرات كلها تلتقي على حقيقة أصبحت ملحة في هذه الأيام، وهي السعي إلى حلٍّ وسَطٍ يتوافق عليه الجميع، ويلتزم به المتنازعون، بل يمكن أن يُفرض عليهم فرضاً، ويُلجَؤون إليه إلجاء، وهو حلّ قد لا يلبي طموحاتنا - نحن الثائرين - لكنه على الأقل يحفظ ما بقي من سوريا، ويصون من لا يزال على قيد الحياة من أبنائها وبناتها.

         قد تكون الرؤيا في معسكر المعارضة - وإن بدت متباينة في الظاهر - إلا أنها واضحة المعالم، فباستثناء جبهة النصرة ومن لفّ لِفَّها، فإن فصائل المعارضة على اختلاف اتجاهاتها متفقة على احترام الهدنة، ولا آكدَ لذلك من رفض كثير من هذه الفصائل حتى ذات المرجعية الإسلامية من محاولة الاندماج بجبهة النصرة.

         أما في معسكر النظام، فقد تَظهر الرؤى العامة لأول وهلةٍ موحدةً متماسكة، وهي كذلك إلى حد كبير، لكنْ، وبمرور الزمن واختلاف المصالح، تتبدّى شروخ عميقة بين الفاعلين الرئيسين في هذه الجبهة: الروس وإيران، فروسيا لا يهمها في النهاية سوى تأمين مصالحها الدائمة في مستقبل سوريا والمنطقة، دون النظر إلى شخص الحاكم واتجاهاته، وهي لن تغادر المنطقة بعد كلّ ما قدّمت إلا إذا ضمنت من يصون لها هذه المصالح، ويدفع لها تكاليف ما دفعت.

      أما إيران، فالأمر لديها مختلف تماما، فهي نظام مؤدلج، يحمل عقيدة دينية توسعية، ويحلم بنفوذ طويل الأمد، بعيد المدى، يشمل الهلال الخصيب كاملا غير منقوص، ومن ثم، فمصالحها في سوريا أخصّ وأدقّ وأبعد، وهي قطعاً لن تكتفي بقطعة صغيرة من القالب، بل ترمي للسيطرة التامة عبر وكلاء فاعلين تملِّكهم الأمر، كما فعلت في العراق الجديد.

       إذن، فما الموقف الحقيقي للروس وإيران والنظام من بنود اتفاق الهدنة الهش؟      

       في العلن، تطالعنا الآلة الإعلامية للنظام صباح مساء، وعلى كل الوسائل التابعة لها برؤى تكاد تكون متطابقة، مفادها التهليل للهدنة، والتأكيد على الالتزام بها، واستعراض بعض الخروقات التي جرت من قبل المعارضة. أما في السر فالأمر مختلف تماما؛ إذ إن بنود اتفاق الهدنة، وبحسب رواية النظام والروس تنصّ على استثناء عناصر داعش وفتح الشام، فإذا تجاوزنا مقرات الدولة الإسلامية "داعش" باعتبارها غير متداخلة تقريبا مع مقرات فصائل المعارضة، فإن ثغرة كبيرة في هذا الاتفاق تفتح ألف باب وباب يلج منها الشيطان لتقويض الهدنة، وهي تداخل مقرات الفصائل المجاهدة مع مقرات فتح الشام، وقد ترك المفاوضون الروس هذه الثغرة مفتوحة كمسمار جحا؛ ليتمكنوا والنظام من ضرب الهدف الذي يريدون في المكان والزمان الذي يريدون تحت ذريعة وجود عناصر فتح الشام. وبالطبع ليست فتح الشام هي وحدها هدف الروس وإيران والنظام، بل جميع عناصر المعارضة المسلحة دون اعتبار لتوجّه أو أدلجة أو تبعية. وإذا كان للروس رأي متمايز قليلا عن نظرة إيران والنظام، فمن المؤكد أن جميعهم لا يرغبون بوجود معارضة - بما تحمله الكلمة من معنى - على أرض سوريا الجديدة، وهذا ما لم ولن يتحقق البتة، وخصوصا بعد أن تذوق السوريون طعم الحرية، وخبروا معاني الكرامة، وعرفوا سبيل الجنة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين