نظرات في القاعدة التكفيرية الثانية: كفر من تحالف مع المشركين أو ناصرهم على إخوانه المؤمنين -6-

هذه بعض البحوث المنتقاة من كتاب فضيلة الشيخ محمد أمين محمد الحامد " الميزان" الذي ناقش فيه بعض نواقض الإيمان في كتابه الذي نشرناه كاملا على موقعرابطة العلماء السوريين. وهذا رابطه:

 http://islamsyria.com/site/show_library/1031%20

سبق في الحلقة السابقة أن مناصرة الكافرين على المؤمنين :

تعتريها حالتان إحداهما :

حالة طبيعية أصلية وتقدم الحديث عنها.

والأخرى : حالة استثنائية أو اضطرارية .

أما في الحالة الثانية : وهي الحالة الاستثنائية أو الاضطرارية مع العدو ، فإن فيها حالات متعددة.

أولاً : الإكراه :

وهي أن يكون المسلم في موقف اضطراري مع العدو ، بغض النظر عن نوع هذا الاضطرار ، كأن يكون جندياً إجباراً في جيش الكفر ، فإن أول واجب عليه: أن لا يتمنى حصول النصر لهذا الجيش الذي يخدم فيه . فإن فعل ذلك فقد كفر لأنه افتقد الولاء الإيماني من قلبه ، وهذا هو الولاء القلبي الذي إذا اختلَّ عند المؤمن وقع في الكفر .

والواجب الثاني الذي يجب على هذا الجندي المكره:أن لا يقاتل أحداً من المسلمين الذين يقاتلونه مهما كان مضطراً، فإن فعل ذلك وقتل أحداً ، فقد وجب عليه القصاص فيما بعد ، إلا إذا عفى عنه ولي المقتول ، لأن الإكراه على القتل لا يبيحه ، فمن أكره على قتل إنسان لا يجوز له أن يفعل ذلك ، لأن حياته تتساوى في قيمتها مع حياة من أكره على قتله، فإذا قتل كان يعني ذلك أنه فضل حياته على حياة غيره ، وهذا تفضيل لا يبيحه الشرع لأحد ، ولذلك فإن الواجب عليه أن يتحمل القتل في نفسه على أن يقتل غيره.

وهذه القاعدة لو طبقها المسلمون لتوقف كثير من الظلم والطغيان والاستبداد ، عندما لا يجد هؤلاء الطغاة من يعينهم على تنفيذ أوامرهم الجائرة.

وبالعودة إلى موضوع الجندي المكره فإن الواجب عليه أن يتهرب من ممارسة القتال الحقيقي، وأن يتظاهر بأنه يعاني من خوف شديد، ويجعل من ذلك وسيلة للهروب إلى الخلف، أو يستأسر عندما لا يكون له سبيل غيره.

والدليل على ذلك: ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حينما قال : من لقي العباس ابن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله فإنما خرج مكرهاً . هذا الحديث مذكور في سيرة ابن كثير من رواية ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذٍ : إني قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ، ومن لقي العباس ابن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله ، فإنما خرج مستكرهاً ج 2 ص1436 ابن كثير .

وفيه أيضاً قصة المجذر بن زياد البلوي عندما لقي أبا البختري ومعه صاحب له فقال المجذر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتلك ، ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مليحة من بني ليث ، قال : وزميلي ، فقال له المجذر : لا والله مانحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك ، قال : والله لأموتن أنا وهو جميعاً ، لا يتحدث عني نساء قريش بمكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة فاقتتلا فقتله المجذر ، ونقل ابن إسحاق شعراً قاله المجذر بن زياد البلوي و شعراً قاله أبو البختري في هذه الحادثة قبل أن يقتتلا لا ضرورة لذكره أنظر سيرة ابن كثير ج 2 ص437.

ومما لا شك فيه أن خروج العباس مع قريش في يوم بدر ، كان تحت ضغط من الحرج الشديد ، لكن هذا الحرج لم يبلغ مبلغ الاضطرار بحسب ما نظن ، لأن حكم الاضطرار يعني أنه سيموت إن لم يخرج ، فهذا أمر لا يمكن أن يصل إليه العباس ، لأنه من أغنياء قريش الكبار، فهو يستطيع أن يعيش في أي مكان في مكة أو في غيرها لو نبذته قريش ، وهي لن تفعل به مثل ذلك ، مع أنها لو كانت قد انتصرت في تلك الحرب فإنها ستكيد له كيداً شديداً جداً ، لكنه كيد يمكن الصبر عليه مهما كان قاسياً ، ولن يصل بهم قطعاً إلى حد القتل له.

ثانياً : المصلحة المادية :

إن بعض الناس قد تحكمهم ظروف تجعلهم في الصف المعادي للمؤمنين ، وسواء أكانت هذه الظروف اضطرارية أو لم تصل إلى حد الاضطرار ، لكنها علاقات متحكمة وفيها الكثير من الحرج عند مخالفتها ، كالعصبية القبلية أو المكانة الرفيعة عند الوجهاء والمتنفذين ، الذين يجدون صعوبة شديدة في الخروج منها ، بل لعل بعضها أن يكون فقط مصلحة المنافع والخوف على مكاسب الحياة الدنيا ، كأن يتعامل في بيع السلاح لأعداء المسلمين ، أو أن يقدم لهم أي دعم لوجستي من الإمداد الغذائي أو أو اتصالات أو نحوها ، وهذا هو شر الأنواع كلها ، لكن الأهم من ذلك أن هذا الإنسان الذي مع العدو ضد إخوانه المسلمين لا يكفر ، بشرط أن لا يتمنى نصر الكافرين على إخوانه المؤمنين ، ولا شك في أن هذا الإنسان يحمل في قلبه أطناناً من النفاق العملي الذي قد يؤدي إلى أن يختم له بخاتمة الشقاء ، أو هو النفاق الحقيقي الكامل إذا كان يتمنى النصر للكافرين على المؤمنين .

ثالثاً : طلب الحماية :

أي من الأعمال الوحشية القذرة التي يمارسها بعض المؤمنين السفاحين، مع عامة أهل الإسلام ، ففي هذه الحالة يجب على المسلمين أن يستعينوا بالكافرين لحماية دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، من بطش هؤلاء المجرمين الذين يستحلون تلك الجرائم ضد المسلمين بتأويلات باطلة، تجعلهم أقسى من جميع أهل الأرض على إخوانهم المؤمنين، ودليل ذلك أن أعمال هؤلاء تشبه أعمال البغاة المفسدين في الأرض ، وهذا هو أدنى ما يمكن أن يوصفوا به ، لأن أعمالهم الإجرامية قد تفوق عند مقارنتها بالجرائم العالمية ، أفظع الجرائم التي يفعلها أشد أنواع العصابات الإجرامية في الأرض.

فإذا حكمنا عليهم أنهم أصبحوا بغاة فقد وجب قتالهم ، وعندما يصبح قتالهم واجباً علينا ، جاز لنا في حالة الضعف الاستعانة بالكافرين في قتالهم ، إذا كان هؤلاء الكافرون من المعاهدين لنا أو ممن لا يريدون العدوان علينا ، كل ذلك من أجل حماية أرواح المسلمين وأعراضهم وديارهم ، من فتك هؤلاء البغاة الذين لا يرقبون في مؤمن عهداً ولا ذمة ، لأننا مأمورون باختيار أهون الضررين وأخف الشرّين ، طلباً لحفظ الإسلام والمسلمين وصيانة للحرمات الواجب حمايتها والدفاع عنها. وسيأتي تفصيل لهذا الدليل بعد قليل.

دليل جواز الاستعانة بالكافرين على قتال المتطرفين :

ما بقي إلا مناقشة هذا الموضوع ، وهو جواز الاستعانة بالكافرين على قتال المتطرفين الذين بدأوا بممارسة الجريمة ، حتى لو كانت واحدة فقط ، ولعل مناقشة هذا الموضوع هو أهم شيء في هذا البحث ، بل إن هذا البحث ما كان ليظهر لولا ما حصل من إشكال في قتال هؤلاء المارقين.

وعند التساؤل هل يصح أن نقاتل هؤلاء المتطرفين الذين هم من المؤمنين ، على حساب قتالنا لذلك النظام الكافر ، وبمعنى آخر فإن هذا الموضوع يتلخص بأن قتالنا لهؤلاء المتطرفين قد يكون فيه تقوية للكافرين ، فهل في هذا العمل نكون في صف واحد مع الكافرين ، متحالفين معهم في قتال من يقول لا إله إلا الله ، وبعبارة فيها كل الصراحة ، هل يصح في النهاية أن نستعين بالكافرين في ذلك القتال ، عندما تحكمنا ظروف القتال والحرب والحاجة إلى حسم الموقف.

هذا القتال لا علاقة له بالإيمان :

إن من الجهل الفاحش أن ننظر إلى هؤلاء المتطرفين ، نظرة عاطفية دينية فقط على أنهم إخوان لنا في الدين ، ونهمل جرائمهم وأفعالهم الوحشية مع المسلمين ، فالمجرم يؤخذ بجريرته ولا ينظر إلى إيمانه ، فمن قتل وجب قتله بغض النظر عن إيمانه وصلاحه و تقواه ، و لو أنه التجأ إلى أي قبيلة قاتلناها حتى تسلمه للعدالة.

وهذا هو شأن قتال البغاة وقطّاع الطرق والمعتدين على الحرمات الذي قد مر معنا قبل قليل ، إذ لا يجوز أبداً السكوت عنهم والتسامح معهم بأي عذر من الأعذار ، وذلك لأن إقامة العدل هي أهم مقاصد الشريعة الإسلامية ، ولذلك كانت صيانة النفوس والأموال والأعراض ، هي من الأساسيات الخمسة التي ما جاءت الشريعة إلا لحمايتها ، وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، أنه ما أرسل المرسلين و لا أنزل الشرائع إلا من أجل إقامة العدل وتحقيق القسط بين الناس ، قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) سورة الحديد آية 25.

حماية المسلمين هي الغاية الأولى لهذا الدين :

إن حماية الأرواح والنفوس والأعراض والأموال هي أهم الغايات التي وظف الدين لها جميع الوسائل التي تكفلها ، ولذلك أوجب الجهاد ، وكان في بدايته دفاعاً عن الظلم ، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ? وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) سورة الحج آية 29. وبين سبحانه أن أمان الحياة الإنسانية لا يتحقق إلا بهذا الجهاد ، قال تعالى : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) سورة الحج آية 40 . وقال في آية أخرى : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَ?كِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) سورة البقرة آية 251 .وهذا هو أهم أسباب وجوب إقامة النظام الإسلامي للحكم ، أي من أجل حماية المؤمنين من الظلم والتكفير والطرد والقتل ، وكذلك من أجل إقامة شعائرهم الدينية بكل حرية.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول عمل له بعد الهجرة ، هو إنشاء دولة خاصة للمؤمنين ، ليأمنوا فيها على دينهم وأنفسهم و أموالهم و أعراضهم.

مشروعية القتال للحفاظ على الضروريات الخمس :

لا يجوز للإنسان أن يستسلم لمن يريد قتله ، ولا لمن يريد أخذ ماله أو الاعتداء على عرضه ، ولا يجوز له أن يخذل أحداً وقع تحت سلطة قاهر ، يريد أن يفعل بغيره مثل ذلك حتى لو كان غير مسلم ، وإذا قتل في سبيل ذلك فهو شهيد ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ، قال: لا تعطه مالك ، قال: أرأيت إن قاتلني ، قال: قاتله ، قال: أرأيت إن قتلني ، قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ، قال : هو في النار . رواه مسلم برقم 140 في كتاب الإيمان ، باب رقم 62 ص 223 ج 2 .

لأن الآيات التي تأمر بالعدل والقسط والإحسان مطلقة وغير مقيدة بالمؤمنين . قال تعالى : (وَأَقْسِطُوا ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) سورة الحجرات آية 9 . وقال ايضاً : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ? يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل آية90.

إنه سبحانه وتعالى يأمر الناس هنا على العموم ، حيث لا فرق في هذا الأمر بين مؤمن وكافر ، فهو يأمرهم بذلك حتى يجعلوا هذا العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، أمراً قائماً بين الجميع بلا تمييز ، وينهى عما نهى عنه بمثل ذلك وبنفس الطريقة .

انظررابط الحلقة الخامسة هـــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين