من خلق المسلم: الرفق

هذه خطبة جمعة قديمة، بقيت حبيسة الأوراق مثل المئات من خطبي التي كنت أحضرها بالكتابة ؛لتكون عونا لي على الحفظ والإلقاء الشفهي المركّز ، وقد قام الأخ الحبيب طارق عبد الحميد قباوة الحلبي – وفقه الله -  بإحيائها من مرقدها ، وشجعني على نشرها، فأعدت النظر فيها ، وزدت عليها ، وأعدت ترتيبها، وقسمتها في حلقات ؛ لتكون أيسر في قراءتها ، والانتفاع بها . أرجو أن تكون ذكرى لي ولمن سمعها وقرأها .

 

- 1 -إن الرفق كلمة تدل على نفسها بنفسها، وتبعث معانيها إليك من أصوات حروفها، فالرفق مادة دافئة تجد منها الرفيق والرفاق ومثلها الوفاق، وهو ضد العنف والشدّة، ويُراد به اليسر في الأمور والسهولة في التوصل إليها، وأصل الرفق في اللغة هو النفع، ومنه قولهم: أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به، ورفيق الرجل: من ينتفع بصحبته، ومرافق البيت: المواضع التي ينتفع بها، ونحو ذلك.ويقال: رَفَقَ ـ به، وله، وعليه ـ رِفقاً، ومَرْفِقاً: لانَ له جانبه وحَسُنَ صنيعه.

 

فالرفق يعني لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل ،واللطف في اختيار الأسلوب وانتقاء الكلمات وطريقة التعامل مع الآخرين وترك التعنيف والشدة والغلظة. 

قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }[آل عمران: 159] فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة ،وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء ...وهكذا كان قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت حياته مع الناس.

وقال عز وجل :{َواخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (الشعراء:21) فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة، صورة خفض الجناح كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المؤمنين طوال حياته.

وقال أيضا:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }(الفرقان:63) أي: يمشون حلماء متواضعين في سكينة ووقار، لا يتكبرون على الناس.

والرفق في معاملة الناس، يؤلف قلوبهم ويمتلك مودتهم، أما العنف فإنه يورث العداوات والأحقاد ورغبات الانتقام. 

من أجل ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق، وحثّ عليه، و حذَّر من العنف، واعتبر المحروم منه محروماً من خير كثير، وذلك لأن الرفق من شأنه أن يصلح ويعطي أفضل النتائج وأجود الثمرات..

1 ـ روى مسلم ( 2593) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على العنف). 

( إن تعالى اللّه رفيق ) أي: لطيف بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، فيكلفهم فوق طاقتهم، بل يسامحهم ويلطف بهم ،( يحب الرفق ) لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، أي يحب أن يرفق بعضكم ببعض ( ويعطي على الرفق ) في الدنيا من الثناء الجميل ونيل المطالب وتسهيل المقاصد، وفي العقبى من الثواب الجزيل ( مالا يعطي على العنف ) وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله .

 فمن من أسمائه - سبحانه - الرفيق، وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأ‌مور، والتدرُّج فيها، وضده العنف الذي هو الأ‌خذ فيها بشدة واستعجالٍ؛ فالله - تعالى - رفيق في أفعاله؛ حيث خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئًا فشيئًا، بحسب حكمته ورِفقه، مع أنه قادر على خَلقها دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة. 

وهو - سبحانه - رفيق في أمره ونَهيه، فلا‌ يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة، بل يتدرَّج معهم من حالٍ إلى حال؛ حتى تأْلَفها نفوسهم، وتأنَس إليها طباعهم؛ كما فعل ذلك - سبحانه - في فرضية الصيام، وفي تحريم الخمر والربا، ونحوهما.

2-وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من الخير- أي نصيبه منه- ، ومن حرم حظه من الرفق، فقد حرم حظه من الخير" . أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق 4/367، برقم 2013، وقال حديث حسن صحيح.

فبالرفق تنال المطالب الأخرويَّة والدنيوية وبفوته يفوتان، ونصيب الإنسان من الخير على قدر نصيبه من الرفق، وحرمانه منه على قدر حرمانه منه.

3 ـ وفي رواية البخاري (6024) : (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله). أي: لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل والدفع بالأخف. 

وقوله :( في الأمر كله ) في أمر الدين وأمر الدنيا، حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكد ذلك في معاشرة من لا بد للإنسان من معاشرته كزوجته وخادمه وولده، فالرفق محبوب مطلوب مرغوب، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشر.

4 ـ روى مسلم (2594) عن عائشة رضي الله عنها أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (عليك بالرفق، وإياكِ والعنفَ والفحشَ، فإنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).  لأن به تسهل الأمور، وبه يتصل بعضها ببعض، وبه يجتمع ما تشتت ويأتلف ما تنافر وتبدد ويرجع إلى المأوى ما شذ، وهو مؤلف للجماعات جامع للطاعات.

وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن من يحرم الرفق، يحرم من خير كثير، ومن فضل عظيم جليل.

5 ـ روى مسلم (2592) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يُحرم الرفق يحرم الخير كلَّه). ‌وفيه فضل الرفق وشرفه، ومن ثم قيل: الرفق في الأمور كالمسك في العطور.

ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنهم هيِّنون ليِّنون سمحاء: 

6 ـ روى أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/180)، والبيهقي في "شعب الإيمان "(7777) في حديث مرسل عن مكحول، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هيِّنون ليِّنون كالجمل الآنف، إن قيد انقاد، وإن أنِخ على صخرة استناخ) والجمل الآنف هو الذلول السهل الذي يطيع صاحبه، ولا يعصيه، ويأنف من الزجر والضرب.

وجاء في الحديث البشارة بالعافية من النار لمن كان هيِّناً ليِّناً، رفيقاً سهلاً، والتحذير الشديد بالحرمان من دخول الجنة لمن كان فظاً غليظاً.

7 ـ   روى أحمد (3938) وقال مخرِّجوه: حسن بشواهده، والترمذي (2488) وقال: حسن غريب، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرَّم على النار، أو بمن تحرَّم عليه النار؟ تحرَّم على كل قريب هينٍ لينٍ سَهْل).

8- وروى أبو داود (4801)،والبيهقي(7823) في "شعب الإيمان" عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة الجوَّاظ ولا الجُعظري). أي: الغليظ الفظ.

فقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن القريب الهيِّن الليِّن السهل يُحرَّم على النار، والسبب في ذلك أنه ليِّن المعاملة، رقيق القلب، رفيق النفس، رقيق السلوك، سهل الانقياد إلى الخير، لا يتشدَّد في تعامله مع الناس، ولا يقسو عليهم، فالله يكافئه على كل ذلك بالرفق فيعفو عنه ويصفح، ويجازيه الجزاء الأوفى. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين