من جهاد النساء في الإسلام

 

روى البخاري في صحيحه قال: حدثنا أبو معمر قال، حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ القِرَبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلاَنِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ).

ما يتعلق بالسند:

أبو معمر: هو عبد الله بن عمرو المقري.

عبد العزيز: هو ابن صهيب.

تخريج الحديث: 

روى هذا الحديث البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، وفي كتاب المغازي، باب غزوة أحد بسياق أتم من هذا. ورواه مسلم بالسياق التام في كتاب الجهاد، باب غزوة النساء مع الرجال.

الشرح والبيان:

(لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم)

وكان السبب في تلك الهزيمة مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كوَّن فرقة من الرماة المجيدين للرمي بالنبال، وأمَّر عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن جبير رضي الله عنه، وأمرهم أن يقفوا وراء جيش المسلمين يدفعون عنهم بالنبال حتى لا تأتيهم خيل المشركين من وراء ظهورهم، وقال لهم: (لا تتركوا مكانكم ولو رأيتمونا تخطفنا الطير، وسواء انتصرنا أم انهزمنا) وكان هذا العمل حنكة حربية، وتصرفاً حكيماً بارعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا المكان هو الذي يمكن أن يؤتى منه المسلمون.

ولكن الرماة لما رأوا المسلمين انتصروا على المشركين، وشرع البعض في أخذ الغنائم وحيازتها اختلفوا فيما بينهم، فقال الكثيرون منهم: إنما كانت وصاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بالثبات في حال عدم النصر، وقال بعضهم: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالثبات سواءً أكان النصر أم كانت الهزيمة. 

وذهب أصحاب الرأي الأول لجمع الغنائم وثبتت ثلة قليلة وعلى رأسهم قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنهم اتباعاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاهتبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يكن أسلم بعد، هذه الفرصة، وهي خلو ظهر جيش المسلمين من معظم الرماة فجاء من خلف الجيش، فقاتلته ودفعته الثُّلة الباقية مع قائدهم عبد الله بن جبير حتى استشهدوا جميعاً في سبيل الله تعالى، فما كان من خالد وخيله ورجله، إلا أن شدُّوا على المسلمين من ظهورهم، وكانت مُفاجأة أذهلت الكثيرين من المسلمين، وساد الهرْج والمرج الجيش الإسلامي، فكانت بوادر الهزيمة، ثم أشيع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل، فزاد من الاضطراب والهزيمة.

ولولا ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحوله ثُلَّة من خيار أصحابه وأبطالهم رضي الله عنهم لكانت الهزيمة ساحقة ماحقة، وكانت الهزيمة في أُحد درساً تربوياً إلهياً تعلَّم منه المسلمون أن لا يخالفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً مهما كانت الظروف والملابسات، فمن ثم لم يقعوا في هذا الخطأ فيما بعد، ولم تقع بهم مثل هذه الهزيمة.

كما تعلَّموا منه أنَّ ما عند الله خير وأبقى وأنَّ الغنائم ما هي إلا عرض زائل لا ينبغي أن تكون غرضاً لمجاهد في سبيل الله، كما كانت الهزيمة اختباراً تبين به المؤمنون الصادقون، من ضعفاء الإيمان والمنافقين. 

وقد دلَّ ما حدث في أُحد على أنَّ الرسل وأتباعهم قد تنالهم الهزيمة في بعض المواقف لخطأ أو لغير ذلك، ولكن العاقبة بالنصر لابدَّ أن تكون لهم، وهذه هي سنة الله تعالى، و لن تجد لسنة الله تبديلاً، وصدق الله تعالى: [كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {المجادلة:21}.

وقد سجَّل الله تعالى ما يتعلق بغزوة أحد، وتسلية المسلمين لما أصابهم فيها، في نحو أربعين آية من سورة آل عمران.

(ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُليم).

أما عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها، فهي أم المؤمنين وزوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تمنعها منزلتها في قومها فهي بنت الصديق سيد بني تيم، ومكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تخرج مع الجيش في أُحد تحمل القِرْبة على ظهرها لتسقي العطشى، وتغيث الجرحى بشربة ماء قد يكون فيها الحياة، وبذلك كانت أسوة حسنة لغيرها من نساء الأمة المسلمات.

أما أم سُليم، فهي أم أنس بن مالك رضي الله عنه كانت من الصحابيات المجاهدات في سبيل الله تعالى، وكانت ممن شاركن في أحد وغيرها بحمل الماء للعطشى، ومُداواة الجرحى.

بل لم تقتصرْ على هذا بل كانت تعد نفسها للقتال إذا لزم الأمر، والدفاع عن نفسها إن همَّ أحد من المشركين بانتهاك حرمتها، والتعدي عليها، وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أنس رضي الله عنه، أنَّ أم سُليم اتخذت يوم حنين خِنْجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله هذه أم سُليم معها خنجر (1)، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا الخنجر؟) قالت: اتخذته إن دنا مني أحدٌ المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، وفي ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرار لها على عملها، وعجب من شجاعتها وبطولتها، وكأنه صلى الله عليه وسلم يهنئ بها زوجها أبا طلحة رضي الله عنه الذي تزوَّجت به بعد والد أنس رضي الله عن الجميع.

(وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما):

التشمير: رفع طرف الثوب من أسفل حتى لا يتعثر فيه صاحبه، وإنما يفعل هذا المجدُّ في السير، أو في عمل كحمل القِرب مثلاً، كما هنا.

خدم: بفتح الخاء ا لمعجمة، والدال المهملة: جمع خدمة وهي الخلخال.

والسوق: جمع ساق، والمراد رؤية موضع الخلخال منها، ولم يكن ذلك عن عمد من أنس رضي الله عنه وإنما حصلت النظرة منه فجأة من غير قصد للنظر، ولم يستدم ذلك.

فإن قيل: كيف تكشف الصحابيتان الجليلتان عن موضع الخلخال من ساقهن وهن من خيرة النساء؟ وموضع الخلخال من العورة؟ 

والجواب: أنَّ ذلك كان قبل أن يؤمر النساء بالحجاب فقد كان ذلك في أُحد في السنة الثالثة من الهجرة، أما نزول آية الحجاب فكانت بعد ذلك في السنة الخامسة صبيحة بنى بالسيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها.

أو أنَّ الحرب تعتبر ضرورة من الضرورات التي تبيح كشف بعض الساق، والضرورات تبيح المحظورات.

(تنقزان القرب ـ وقال غيره – تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم).

تنقزان: بفتح التاء وسكون النون وضم القاف بعدها زاي، أي: تحملان.

والقرب: جمع قربة ما يحمل فيه الماء، وهي من الجلد، وفي الرواية الأخرى تنقلان والمعنى واحد وهي مفسرة لرواية تنقزان وهي رواية جعفر بن حمدان عن عبد الوارث فلعله رواها بالمعنى، لأنَّ الرواية التي اتفق عليها الشيخان تنقزان.

والقرب: منصوب على المفعولية.

وقيل: معنى تنقزان: تثبان وتقفزان.

والنقز: الوثب، والقفز كناية عن سرعة السير، وهذه المواطن مما يستحب فيها السعي والإسراع، فربَّ شَربة تنقذ عطشان، أو جريحاً من الموت.

والقرب: المعنى منصوب على نزع الخافض على هذا أي: تثبان وتقفزان بالقرب.

(على متونهما) أي: على ظهورهما وجوانبهما كما هو الشأن في حامل القربة من الماء.

(ثم تفرغانه في أفواه القوم ) الضمير في تفرغانه للماء وهو مفهوم من الكلام إذ القربة وعاء الماء، والمراد بالقوم المقاتلون العطشى والجرحى.

(ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغان في أفواه القوم) كناية عن استمرار ذلك منهما، وأنهما لم يفعلا ذلك مرة ولا مرتين، بل فعلا ذلك مراراً.

وقد دلَّ هذا الحديث على جواز خروج المرأة مع الجيوش لتصنع الطعام والشراب والكساء، ولتسقي العطشى ولتمرض الجرحى، ولا حرج في ذلك ولا في ملامستها لغير محرم، أو غير زوج لأنها ضرورات والضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، وهذا من سماحة الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وسبقه إلى كل خير.

أحاديث شاهدة لهذا الحديث:

وقد ورد في إباحة خروج النساء في الغزو والجهاد، ومباشرتهن بعض الأعمال الضرورية للجيش أحاديث أخرى منها: الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن الربيع بنت معوذ (2) قالت: (كنا لغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة).

ومنها الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن يزيد بن هرمز أن نجدة (3) كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، كتب إليه نجدة: أما بعده فأخبرني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهنَّ بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الُخُمس لمن هو؟ 

فكتب إليه ابن عباس رضي الله عنهما: (كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويُحْذَين (4) من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان، وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إنَّ الرجل لتنبت لحيته، وإنَّه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتيم، وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذلك).

ومنها الحديث المرسل الذي أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: (كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد، ويسقين المقاتلة، ويداوين الجرحى).

ومنها ما رواه أبو داود في سننه من طريق حشرج بن زياد عن جدته، أنهن خرجن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين وفيه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سألهنَّ عن ذلك فقلن: خرجنا نغزل الشعر، ونعين في سبيل الله، ونداوي الجرحى ونناول السهام، ونسقي السويق) إلى غير ذلك من الأحاديث في هذا المقام (5).

ومن هذه الأحاديث يتبيَّن لنا جلياً أنَّ المرأة المسلمة قامت بألوان من الجهاد التي تليق بها، وأنها سبقت المرأة الغربية في هذا، وقد كان خلفاء المسلمين يعرفن للنساء الغازيات المجاهدات فضلهنَّ.

روى البخاري في صحيحه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً (6) بين نساء من نساء المدينة فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين: أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك – يريد أم كلثوم بنت علي زوجته رضي الله عنهم - فقال عمر: أم سليط أحق به منها، قال عمر رضي الله عنه: فإنها كانت تزفر (7) لنا القرب يوم أحد.

وكانت النساء يقمن بهذه الخدمات، وأنواع الجهاد، وهنَّ على حالة من الوقار والاحتشام، وعدم التبرج، والمخالطة المريبة، والإسلام لا يمنع المرأة من المشاركة في الحرب بما يَليق بحالها، بل ومن التسلُّح بالسلاح للدفاع عن نفسها، وحماية شرفها كما سمعنا من أم سُليم رضي الله عنها، بل ومن المشاركة في القتال إذا لزم الأمر، وذلك كما فعلت السيدة أم عُمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، فإنها في غزوة أُحد خرجت لتسقي العطشى وتمرض الجرحى وكانت الريح للمسلمين، فلما ذهبت ريحهم وبدت الهزيمة، ألقت بسقائها، وأخذت السيف وصارت تقاتل، وتناضل عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أحاطَ به المشركون، ولم تزل تقاتل حتى سقطتْ مَغْشياً عليها من جِراحها وآلامها. 

وسأحدِّثكم في مقال آتٍ عن شيء من بطولتها فرضي الله عنها، ورضي الله عن النساء المسلمات الغازيات المجاهدات وأرضاهنَّ.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، السنة الخامسة والأربعون، صفر 1393 - الجزء 2).

--------------

(1) الخنجر بكسر الخاء، والفتح لغة: سكين كبير ذات حدين.

(2) الربيع: بضم الراء وفتح الباء الموحدة وكسر الباء المشددة وأبوها معوذ بضم الميم، وفتح العين وكسر الواو المشددة، لها ولأبيها صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم.

(3) هو نجدة الحروري من الخوارج، وقد كان ابن عباس يكرهه لبدعته، ولكن لما سأله عن مسائل من العلم لم يسعه إلا إجابته حتى لا يعد فيمن يكتمون العلم.

(4) يحذين: بضم الياء وفتح الذال مبنياً للمجهول أي: يعطين على سبيل الرضخ لا على سبيل السهم، وهو مذهب جماهير العلماء، وقال الأوزاعي تستحق السهم إن كانت تقاتل أو تداوي الجرحى، وقال مالك: لا رضخ لها. وهذا المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح.

(5) انظر صحيح البخاري (كتاب الجهاد، باب غزو النساء وقتالهنَّ مع الرجال)، وصحيح مسلم: (كتاب الجهاد، باب غزو النساء مع الرجال).

(6) جمع مرط: كساء جيد من صوف أو حرير تتلفع به المرأة.

(7) تزفر مثل تحمل وزناً ومعنى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين