من ثبت نبت

يقول مولانا جل في علاه : رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) سورة آل عمران . 

هذا دعاء علمناه إياه ربنا عز وجل في القرآن ... نقرؤه مرة كل شهر إن كانت لدينا ثمة ختمة نلتزمها أو ورد نأخذ أنفسنا به ، وقد نمر عليه سريعاً ... وحقه أن نقف عنده طويلاً لأنه يشتمل على درس بالغ الأهمية ... نحن بأمس الحاجة إليه وبخاصة في هذا الزمن الذي يموج بالفتن ما ظهر منها وما بطن . 

أحبتي في الله : 

إن من أشد أنواع الفتن وأخطرها على النفس تلك الفتن التي تقع بعد ثبات، وتحصل بعد هداية؛ لأنه يحدث هزة في النفس، واضطراباً في الفكر، وخللاً في الذات، وردة فعل عنيفة، توقع في مزالق خطيرة أقلها إحباط العمل ، لذا جاء هذا الدعاء القرآني مُعَلِّماً ومَعْلَماً في حياتنا نهتدي بهداه ونستنير بنوره . 

وعليه كان من دعائه عليه الصلاة والسلام : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ.رواه الإمام أحمد . 

فالثبات توفيق من الله تعالى يُسأله سؤالاً، ويُطلب منه طلباً سبحانه ، فإذا أنعم به على عبده فقد أنعم عليه بنعمة كبيرة، ووهبه هبة لا تقدر بثمن . 

إن الثبات أيها السادة ليس نتاج علوم كثيرة، ولا طاعة كبيرة ووفيرة ، بل هو إقامة من الله تعالى إياك في مقام الثبات ، ولولا ذلك لكنت الآن مكان أي كافر أو منافق، اسمع إلى قوله تعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم : وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) سورة الإسراء. 

ثم الثبات لا يكون بكثرة الاستماع للمواعظ، والإنصات لإذاعات القرآن الكريم المباركة، والقراءة في كتيبات صغيرة أو كبيرة، بل بتطبيق تلك المعارف والعلوم والمواعظ وتفعيلها في واقع الحياة وإحلالها في النفس خلقاً وملكة، قال تعالى : وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) سورة النساء. 

فالإنسان رغم التزامه .... ورغم طاعاته هو على خطر عظيم ... وقد يزل بعدها إن لم يتداركه لطف الله ، قال تعالى : وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94).

قيل لأحد السلف : إن فلاناً افتتن وانتكس ، فقال : مرد ذلك إلى أمرين : إما أنه لم يسأل الله الثبات ، أو أنه لم يشكر الله تعالى على نعمة الاستقامة ، ومن هنا ينبغي العلم أن الاستقامة والثبات ليس إنجازاً يحسب لك ، أو بطولة أنت من يصنعها ، أو لقباً أنت من يحرزه ، بل هو توفيق من الله تعالى . 

فاللهم ثبتنا ... وأنبتنا ... ووفقتنا لطاعتك ... ولا تفتنا ... ولا تمتحنا ... فنحن عبيد إحسان لا عبيد امتحان .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين