ملامح سور القرآن: سورة الفرقان

سورة الفرقان تكملة لما سلف في سورة المؤمنون، وهو معنى الإنسانية المطلوبة، الجامعة للبشرية والإيمان، وكانت سورة النور تفصيلًا لما يتصل بقوله: (والذين هم لفروجهم حافظون)، ثم جاءت سورة الفرقان للعودة إلى نفس السياق، بالارتقاء بمعنى الإنسانية إلى رتبة الإمامة، فبينت أن استمدادها من القرآن والتخلُّق بأخلاقه.

وسماه هنا: (الفرقان) لأن الفصل في المتشابهات والملتبسات هو من أخص شئون الإمامة في الدين، وذلك يستمد أصله من القرآن. فمقصد سورة الفرقان هو كيف يعد القرآن صاحبه للإمامة.

وكما بُدئت سورة المؤمنون بأوصاف المؤمنين، خُتمت سورة الفرقان بأوصاف (عباد الرحمن)، وهم هم. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يترسم أوصاف المؤمنين في القرآن فيتخلق بها، ولذلك كان خلقه القرآن. والسورة تشير إلى هذا المعنى بالذات. وفي هذه الأوصاف أنهم يمرُّون باللغو كراما، كما وصفهم في سورة المؤمنون بأنهم عن اللغو معرضون.

(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) فدائرة التأثير المطلوبة هي دائرة (العالمين)، وفي هذا إلماح إلى الإمامة من أول السورة، وفي دعوة عباد الرحمن في آخر السورة: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا) دائرة أخرى للتأثير والإمامة، وهي الأهل، لأنهم إذا كانوا قدوة للأزواج والذرية كانوا قرة عين لهم، وهي دائرة أخص من عموم المتقين. وناسب بدء الإمامة من الأهل الأدنين ذكر النسب والصهر، وأيضًا ذكر الشمس والقمر، والليل والنهار، فهو مثل لتأليف الأسرة وتقابل ركنيها، يشبه ما سلف في سورة النور من تأليف السحاب.

و(تبارك) من البركة، والبركة هي أصل ثابت له عطاء دائم. و(عبده) وصف تشريف، مر بنا في: (سبحان الذي أسرى بعبده)، و(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، وسيأتى في النجم: (فأوحى إلى عبده ما أوحى)، فعطاءات الإمامة تكون بتحقق العبودية.

ويشيع في السورة ذكر شئون تتعلق بالقرآن، ومنها رد مقولات الكافرين فيه، فمرة ينسبونه إلى الافتراء بمعونة آخرين، ومرة ينسبونه إلى أساطير الأولين اجتهد في جمعها وجاء بها، ومرة يقترحون أن ينزل جملة واحدة حتى يعرفوا آخر ما فيه، فيحكموا عليه بجملته بزعمهم. وفيها شكوى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هجران القرآن وترك الانتفاع به. وفيها أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجاهد به جهادًا كبيرًا، بعد قوله: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا)، فقد صار القرآن خاتمة الرسالات ومغْنِيًا عن إرسال الرسل بحفظه في صدور الذين أوتوا العلم.

وفيها وصف المؤمنين بأنهم (إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًّا وعميانًا)، ويجوز أن يكون المراد بالآيات هنا آيات القرآن وآيات الكون معًا، فيكون (صمًّا) للآيات المتلوة، و(عميانًا) للآيات المنظورة، ويجوز أن يكون كلاهما للآيات المتلوة، والعمى عمى البصيرة، أو العمى للآيات المسطورة في المصحف.

ومن الدليل على اتصال هذه السورة بمعنى سورة المؤمنون ما ذكر فيها من استنكار الكفار لبشرية الرسول: (مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)، ويقترحون أن ينزل إليه ملك، أو يلقى إليه كنز، كما اقترحوا أن تُنزَّل عليهم الملائكة، أو يروا ربهم، وهم في كل ذلك يفرون من تدبر الرسالة الملقاة إليهم في القرآن، فهذه هي الدعوة، وهذه هي المعجزة.

وفي السورة مشاهد كونية من أعجبها مشهد الظل الذي مده الله ويقبضه، وجعل الشمس عليه دليلا، ودلالتها عليه أنها سبب وجوده، ثم سبب حركته مدًّا وقبضًا، ثم سبب معرفته، وذلك بوجود ضوء الشمس في غير مكان الظل. وامتداد الظل مثَلٌ لامتداد تأثير المؤمن الإمام زمانًا ومكانًا. وهو مشهد فريد في القرآن، والظل في القرآن ممدوح، كما قال: (وندخلهم ظلًّا ظليلا)، والشمس مرغوب عنها، كما قال: (لا يرون فيها شمسًا)، (وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)، فالظاهر أنَّ الظل هو المقابل لنعمة الهداية، وليس معناه الظلمة، ليكون مقابلًا للضلال.

وفي السورة إشارة إلى أئمة الضلال في قوله على لسان الظالم: (ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا)، وهذا من الناس، أو من الهوى في قوله: (أرأيت من اتَّخذ إلهه هواه)، حتى صاروا بهذا الاتباع الأعمى للأخلاء والأهواء كالأنعام أو أضل سبيلا.

وفي ختام السورة إشارة إلى هذا المعنى، ذلك أن الكفار يستكثرون بالأتباع وبالأعمال الدنيوية المحضة، على أن الكرامة عند الله إنما هي بكمال العبودية، فهي تنقص بنقصانها، فمهما عمل الكافرون مما يحسبونه إحسانا، ويظنونه خيرا، من أعمال الدنيا المبتوتة عن طلب مرضاة الله، ورجاء لقائه، كان في الآخرة هباء منثورًا، لا يعبأ الله به وبأصحابه، بل الذي يلزمهم يوم القيامة هو جزاء تكذيبهم يوم يدعون ثبورًا كثيرًا. ولذلك اختُصت هذه السورة بزيادة (عملًا) في قوله: (وعمل عملًا صالحًا) دون سائر القرآن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين