لماذا أعتذر إلى هؤلاء؟

لا شك أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأنه أفضل من التمادي في الباطل واللجاج فيه، لذلك لم يمتنع كبار العلماء من الرجوع عن آرائهم، أو حتى تغيير مذاهبهم، قال عبد الله بن بريدة: من ضنائن العلم الرجوع إلى الحق.

وقال ابن حجر الهيتمي: (ما كانت أندية التحقيق بأعيان الأفاضل لم تزل حافلة، ومغانيها بغواني الفضائل آهلة، كان الرجوع إلى الحق خيرا من التمادي في الباطل، والتحلي بحلية أهل الصدق خيرا من التحلي بكل وصف زائل، وجدال ليس تحته من طائل، وتفيهق بما لا يجدي من التلفيقات، وتمشدق بما لا يصح من العبارات).

وقد ذكر الشوكاني أنه لا سبب لاستصعاب الرجوع إلى الحق إلا تأثير الدنيا على الدين، فإنه قد يسول له الشيطان أو النفس الأمارة أن ذلك ينقصه ويحط من رتبته ويخدش في تحقيقه ويغض من رئاسته، وهذا تخيل مختل وتسويل باطل، فإن الرجوع إلى الحق يوجب له من الجلالة والنبالة وحسن الثناء ما لا يكون في تصميمه على الباطل، بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص له والإزراء عليه والاستصغار لشأنه.

ومن هذا المنطلق، أقدم اعتذاري إلى أديب فلسطين الكبير محمد إسعاف النشاشيبي، وإلى الشيخ الفاضل محمود مهدي الاستانبولي، وإلى الشيخ العالم محمد حامد الفقي، وإلى الشيخ المصلح محمد الخضري، والى الشيخ العالم المفتي أبي اليسر عابدين، رحمهم الله وأحسن منازلهم، وأسبغ عليهم غلائل رحمته، ومكارم جوده.

كما أقدم اعتذاري إلى الشيخ المجدد المحقق طه حامد الدليمي، حفظه الله وبارك في أنفاسه، ونفع بأبحاثه.

وأعتذر كذلك إلى المحدث الفاضل عبد الستار الشيخ، رفع الله قدره، ونفع بعلمه.

أما سبب الاعتذار فهو أني سبق أن وصفت أولئك الأفاضل، والسادة الأماثل، بالنصب ومعاداة أهل البيت، وكتبت مقالاً في ذلك.

لقد تبين لي أنه ليس هناك نحلة تسمى النصب لأهل البيت، وأن هناك بدلاً منها نحلة النصب للمسلمين، ومعاداتهم، وإساءة الظن بهم.

تبين لي أن هناك نحلة تسمى الرفض، تغالي فيما يسمون بأهل البيت، وتمنحهم مزايا وخصائص ليست لغيرهم من المسلمين، وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء لإعلاء شأن عشيرته وقومه، وإركابهم على أكتاف الناس! وهي مناقضة صريحة لرسالة الأنبياء جميعاً التي لم تسأل على دعوتها أجراً إلا من الله تبارك وتعالى.

وتبين لي كذلك أن كل من ينكر تلك الخصائص المزعومة يسمى في عرف بعض الناس ناصبياً خبيثا! بل يصمون بذلك اللقب كل من انتقد تصرفاً أو رأياً لأحد المشمولين بتسمية بأهل البيت، كعلي أو فاطمة أو الحسن أو الحسين رضي الله عنهم وأرضاهم، وكأن أولئك السادة الكرام جازوا قنطرة الوهم، أو ارتقوا عن مرتبة الخطأ والنسيان!

وتبين لي كذلك أن نحلة النصب يراد منها أن تكون مدرجاً وسبيلاً إلى الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين روّوا الأرض -في سبيل نصرة هذا الدين- بدمائهم، وشهد العدا ببسالتهم وسداد رأيهم، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وخالد وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم.

وفي الختام، ليس في الاعتذار ما يشين، ولا في الرجوع ما يقدح، فعسى أن يكون في هذه الكلمات عبرة لكلّ من اغتر بفطير الرأي، أو جرى يوماً وراء سراب الواهم.

 

انظر مقالة ( تنظير النصب في العصر الحديث )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين