لكي لا تنقلب برامج التواصل إلى أدوات للتقاطع (1-2)

 

إذا كان السفر في السابق يسفر عن أخلاق الرجال، فبرامج التواصل الإلكتروني هي التي تسفر اليوم عن هذه الأخلاق أكثر من السفر وغير السفر! بهذه الكلمات عبّر أحد الأصدقاء الأفاضل وهو من أصحاب المجالس العامرة والمقصودة عن شكواه ومعاناته من برامج التواصل، يقول: إن كثيرا من وقته يذهب في مسح الرسائل وتنظيف هاتفه المحمول من مئات الصور والتسجيلات التي تنهال عليه كل يوم. تفاعل الناس معه كان لافتا وكأنه لامس جرحا مختزنا، قال أحدهم: بعث إلينا أحد الأصدقاء أكثر من ثلاثين رسالة جملة واحدة، فقام صديق ثانٍ فأرسل أكثر من أربعين رسالة، وكأنّهما في مباراة، ويقول: أنا أشك أن أي واحد منهما قد قرأ هذه الرسائل خاصة أن فيها أشياء لا تليق! أكّد صاحب المجلس هذا وقال: تصوّر أنه يأتينا فيديو رقص من أحد روّاد حلقة القرآن عندنا، وحينما عاتبناه اعتذر وقال: «السموحة يا ربع أني أرسلتها قبل أن أفتحها»! وهكذا انفتح موضوع ساخن والكل يدلي بدلوه ويفرغ ما بصدره.

أعجبني سؤال نبيه طرحه أحد الأصدقاء الأعزاء قال: هل شعوب العالم هكذا لديهم الفراغ الكافي كما هو عندنا نحن العرب؟ كأنه يشير إلى أن هذا مجرّد عرض للمرض، وليس هو المرض بحدّ ذاته، فالوقت الذي هو العمر وهو الحياة ليس له قيمة عندنا، وهذا أصل العلّة وأساس الداء، تذكرت عندها قصة لطيفة حكاها لي أخي الدكتور محمد المصلح قال: تأخّر أحد الإخوة العرب عن موعده لنصف ساعة فأنّبه صاحبه الغربي تأنيبا شديدا، فحاول في المرة الثانية أن يبكّر فجاء قبل نصف ساعة، فأنّبه صاحبه أيضا، وقال له: هذه مثل تلك، أمس أضعتَ نصف ساعة من وقتنا، واليوم أضعتَ نصف ساعة من وقتك!

نعم إنها ظاهرة مكررة ويشكو منها غير واحد خاصة ممن ابتلي ببلاء الشهرة، فأنت تجد نفسك يوميّا أو بين يوم وآخر في مجموعة أو «جروب» جديد، منهم الأصحاب ومنهم الأغراب، لا تدري من أسّسها ومن أدخلك فيها أو ضمّك إليها؟ ثم لا يكتفون بذلك بل يتبرعون بالتعريف، أو بطلب التعريف، ويكتبون لك: «عذرا لأن الكثير من المجموعة لا يعرفون من صاحب هذا الرقم»، ولأنك متأكّد من النوايا الطيّبة والعفويّة فإنك تشعر بالحرج إن انسحبت أو اعتذرت، ثم لمّا عمّت البلوى خفّ عندي بعض هذا الحرج، فجربت الانسحاب مرة ثم أخرى، فأعادني مشرفها أو مؤسسها لها أو لمثيلاتها أكثر من عشرين مرّة! 

في البرامج الأوسع ترى عجبا أكبر، فهناك طلبات واقتراحات وسؤالات «على الخاص» لا حصر لها، تهبط عليك كالمطر، وكل واحد منهم يظنّ أنك مفرّغ له، والغريب أن بعضهم يكتب برموز وأسماء وهمية، ثم يعتب عليك لأنك لم تتجاوب معه، وأنت لا تعرف من صاحب هذا الحساب أصلا! 

أما الصفحات المفتوحة وما فيها من انتهاك للمحرّمات والحرمات خاصة من أصحاب «الأقنعة الإلكترونية» فحدّث ولا حرج، إضافة إلى الإشاعات والدعايات والأحاديث الموضوعة والفتاوى المقلوبة التي ليس لها سند ولا مصدر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين