فضل العلم على الجهاد

 

يندرج في فضل العلم على العبادة، فضله على الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام الذي استفاضت في بيان فضيلته آيات القرآن وأحاديث الرسول.

 

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أحد أوعية العلم، ومصابيح الهدى: والذي نفسي بيده، لَيَودَّنَّ رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء، لما يرون من كرامتهم([1]) أي: من كرامة العلماء.

 

ويقول الفقيه الداعية المربِّي الحسن البصري: يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مدادُ العلماء[2].

 

ذلك أن الجهاد لا يُعرف فضله إلا بالعلم.

 

ولا تتَّضح شروطه وحدوده إلا بالعلم.

 

ولا يتبيَّن الجهاد المشروع من القتال غير المشروع إلا بالعلم.

 

ولا يتميز النَّفل فيه عن الفرض إلا بالعلم.

 

ولا يُعرف فرض الكفاية فيه من فرض العين إلا بالعلم.

 

وكم ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم جاءه يجاهد معه، لأنه رأى أنه ترك واجباً يخصه ألزم من الجهاد، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيُّ والداك»؟

 

قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»([3]).

 

وفي رواية: أن الرجل قال: يا رسول الله، جئت أريد الجهاد معك، ولقد أتيت وإنَّ والدي يبكيان. قال: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»([4]).   

 

وعن أبي سعيد: أن رجلاً هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: «هل لك أحد باليمن؟ فقال: أبواي، فقال: أذِنا لك؟ فقال: لا، قال: ارجع إليهما فاستأذنهما، فإنْ أذنا لك فجاهد، وإلا فبرّهما»([5]).

 

وفي حديث آخر أنه r  قال لمن جاء يستشيره في الغزو معه: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: «الزمها فإن الجنَّة عند رجليها»([6]).

 

وبهذه الأحاديث استدل العلماء على وجوب استئذان الأبوين في الجهاد، وبذلك قال الجمهور، وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع عنه الأبوان أو أحدُهما؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا صار الجهاد فرضَ عين فلا إذن، لأن تركه معصية، ولا طاعة لبشر في معصية الله تعالى.

 

وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمَيْن، لأن الكافريْن لا يرضيان يوماً بالجهاد لنصرة الإسلام وخذلان دينهما.

 

وكل هذه الحدود والفوارق الدقيقة إنما تُعرف بالعلم، فمن أعرض عن العلم، واشتغل بالجهاد كان حريّاً أن يقع في الخطأ، أو ينحرف عن سواء الصِّراط وهو لا يدري.

 

وكم من أناس في الماضي حملوا سيوفهم على عواتقهم يقاتلون من عصم الله دماءهم وأموالهم يزعمون أنهم بذلك يجاهدون، فيقتلون أهل الإسلام، ويدَعون أهل الأوثان! أولئك هم الخوارج الذي صحَّ الحديث[7] في ذمِّهم من عشرة أوجه كما قال الإمام أحمد بن حنبل، وأيده ابن تيمية[8].

 

وما ذلك إلا لأنهم تعبَّدوا قبل أن يتعلموا، وجاهدوا قبل أن يتفقهوا، وتعجلوا العمل قبل العلم، فضلَّ سعيهم، وهم يحسَبون أنهم يُحسنون صنعاً.

 

وكم من شباب في زمننا دفعهم الحماس الكثير في صدورهم، مع العلم القليل في رؤوسهم، والإعجاب المزهو برأيهم، إلى رفض أمتهم، وتكفير جماهيرها، واعتبار أوطانها ديارَ كفر لا دار إسلام، فاستحلوا بذلك ما حرَّم الله، وأسقطوا ما أوجب الله، اتباعاً لمتشابه النصوص، وابتغاء الفتنة، وابتغاءَ تأويله.

 

ولو تعلموا وفقهوا، وتلقَوا العلم من أهله، وعرفوه من مناهله، لوقف بهم العلم عند حدودهم، وعرّفهم حقيقة الجهاد: كيف يكون؟ ومتى يكون؟ ولمن يكون؟

 

وهذا ما نصحَ به الإمام الحسن البصري t حيث يقول: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح. فاطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا([9]).

 

على أنَّ الجهاد الذي جاء به الإسلام ليس كله جهاداً بالسيف، فهناك جهاد بالقلب واللسان، والحُجَّة والبيان، أي جهاد بالعلم. وهو المذكور في قوله تعالى:[فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] {الفرقان:52} .

 

فلم يكتف القرآن بتسميته جهاداً بل سمَّاه «جهاداً كبيراً» وهذا في مكة قبل أن يُشرَع القتال.

 

وهو جهاد المنافقين في قوله سبحانه:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] {التوبة:73}  و[التحريم: ?] .

 

فجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان. ولا تعجب إذا جاء في الحديث: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع»([10]).

 

قال الإمام ابن القيم: «إنَّما جُعل طلب العلم في سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد. فقوام الدين بالعلم والجهاد. ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان. وهذا المشارك فيه كثير. والثاني: الجهاد بالحجة والبيان. وهذا جهاد الخاصَّة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه. قال تعالى في سورة الفرقان، وهي سورة مكية [وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا(51) فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52) ]. {الفرقان}. . فهذا جهادٌ لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادَيْن. وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم. ومع هذا فقد قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] {التَّحريم:9} . ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجَّة والقرآن. قال: والمقصود أنَّ «سبيل الله» هي الجهاد، وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ t: عليكم بطلب العلم، فإنَّ تعلمه لله خشية ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد[11].

 

 ولهذا قرن – سبحانه – بين الكتاب والميزان والحديد الناصر، كما قال تعالى :[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحديد:25} .

 

فذكر الكتاب والحديد، إذ بهما قوام الدين. كما قيل:

 

 فَمَا هُوَ إِلاَّ الْوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهف[12] ... تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدعَيْ كُلِّ مَائِلِ[13]

فَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ ... وهَذَا دَواءُ الدَّاءِ من كلّ جَاهِلِ

 

والمقصود أن كلاً من الجهاد بالسيف والحجَّة يسمَّى (سبيل الله] وفسر الصحابة t قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59} . 

 بالأمراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله: هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم.

 

فطلب العلم وتعلُّمُه من أعظم سبيل الله عز وجل.

 

قال كعب الأحبار: طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله عز وجل[14].

 

وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: إذا جاء الموت طالبَ العلم، وهو على هذا الحال، مات وهو شهيد.

 

وقال سفيان بن عُيينة: من طلب العلم فقد بايع اللهَ عز وجل.

 

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : من رأى الغدوَّ والرواح إلى العلم ليس بجهاد، فقد نقص في عقله ورأيه([15]).

 

من كتاب: " الرسول والعلم" 

 

 

([1]) «مفتاح دار السعادة»، (1/121) .

[2] - إحياء علوم الدين (1/8).

([3]) متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (3004)، ومسلم في البر والصلة (2549).

([4]) رواه أحمد (6490) وقال مخرجوه: إسناده حسن، وابن ماجه الجهاد (2782)، في أحمد (الهجرة) بدل (الجهاد).

([5]) رواه أحمد (11721) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، وأبو داود في الجهاد (2530)، وابن حبان في البر والإحسان (422)، وصحح الألباني في صحيح الجامع (892).

([6]) رواه أحمد (15538)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، والنسائي في الجهاد (3104)، وابن ماجه في الجهاد (2781)، والحاكم في الجهاد (2/ 104)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2485)، عن معاوية بن جاهمة.

[7] - إشارة إلى الحديث المتفق عليه: " إن من ضئضئ هذا ... يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد "رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3344)، ومسلم في الزكاة (1064)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[8] - مجموع الفتاوي (3/279).

([9]) جامع بيان العلم (1/545).

([10]) رواه الترمذي في العلم (2647) , وقال: حسن غريب, ورواه بعضهم فلم يرفعه، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (88): حسن لغيره، عن أنس بن مالك.

[11] - الوحي: أي القرآن المجيد، وبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أو حَدُّ مُرْهَفٍ: أي: أَو حدُّ سيفٍ مرهف. المرهف الْمَسْنُون ذو الشفرة الرقيقة.

[12] - ظُبَاهُ: الظُّبَةُ حَدُّ السيف والسّنان والخِنْجَرِ ونحوها وجمعها: "ظُباً" و"ظُبَاة" و"ظُبُون".

أخْدَعَيْ كُلِّ مائل: الأَخْدَعُ أحد عرقَيْنِ في جانِبَي الْعُنقُ، وهما الأخدعان.

[13] - من شعر أبي تمام.

[14] - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/377).

([15]) «مفتاح دار السعادة»، (1/71- 77) .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين