غزَّة بين التفاؤل والتخاذل

   بين بثِّ روح التفاؤل في الناس وتخديرهم شعرة، فمنشأ الأول العلمُ والبصيرة والقراءة الواعية لسنن الله تعالى وفقه الواقع بسياقاته، بعيدًا عن النرجسية الحالمة، ومنشأ الثاني العواطفُ الجياشةُ واستقراءُ النصوص الشرعية المتفائلة بطريقة رغائبيةٍ، وتكلُّف إسقاطها على الواقع.

وفي الطرف الآخر من المعادلة يقفُ فريق آخرُ ليس له وظيفةٌ سوى التخذيل وتثبيط العزائم، ولا يُحسن سوى النقد الهدام، نظرته سوداوية قاتمة، لا يقعُ نظرُه إلا على النقائص، ولا يخطُّ قلمُه غيرَ المعايب، يضعُ شروطًا مثاليةً تعجيزيةً للنصر لم تكن موجودةً حتى في عصر النبوة.

   نسي هؤلاء أنَّ المنافقين كانوا منتشرين في المدينة النبوية ويتمالؤون على المؤمنين ليلَ نهار، وأنَّ رأسَهم رجع بثلث الجيش يومَ أحد!

   نسوا أنَّ الرماة خالفوا أمرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم طمعًا بالغنيمة، وكان ذلك سببًا في تقهقُر المسلمين في المعركة، وأنه لم يخلُ عصرُ الصحابة الكرام من نزاعات وخلافات داخلية أضرَّت بالدولة الإسلامية وأخَّرت توسَّعها.

 إنَّ العبرةَ في تقييم الحالة العامَّة والحكم عليها إنما يكون من خلال تحولاتها الإيمانية وعزيمتها الجهادية صعودًا ونزولا.

- أخبرتني السننُ أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يُسرا ..

 وأنَّ الفئة القليلة بالإيمان تغلبُ الفئةَ الكثيرةَ بإذن الله..   وأنَّ المؤمن مكلَّفٌ بأداء ما كُلف به من إقامة شرع الله ودينه، أما حصول النتائج فهو بيد الله وحده ..

وأنَّ العبادَ يستعجلون النصرَ ولكنَّ الله لا يَعجلُ لعجلتهم.

- أخبرتني السننُ أنَّ دورة التاريخ أطولُ من عمُر الفرد، ولأجل ذلك تتشوَّفُ نفسُ الواحد منا إلى رؤية النتائج العاجلة في حياته، لكن من قرأ التاريخ يُدرك أنَّ النصر قد تصنعُه أجيالٌ متعاقبة، فقد يزرعُ الأجدادُ ويقطف الأحفاد.

- أخبرتني السننُ أنَّ الآجالَ محدودَةٌ لا تتقدَّمُ ولا تتأخَّر، وأنها في حقِّ الأمم كما هي في حقِّ الأفراد، فقيامُ كلِّ دولة له أجلٌ ينقضي بميعاد، قال الجليلُ سبحانه: (ولكلِّ أمةٍ أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون).

وأنَّ علامةَ احتضارها واقترابِ أجلها هو علوُّها وطغيانُها إلى أبعد حدٍّ ممكن، ليكونَ سقوطُها من علٍ مدوِّيًا وقاضيا.

لقد اختلَّ مفهومُ النصر وميزانُه عند بعض الناس فبات لا يرى النصرَ إلا في صالح القاتل ضدَّ المقتول دون الأخذ بعين الاعتبار أوجهَ النصر الأخرى، كالثبات على المبدأ، وصلابة الإرادة، وظهور الحقيقة، وتعرية الباطل.

 

قال لي أحدُهم يوما:

إنَّ الصحابة قدَّموا تضحياتٍ جِسامًا في سبيل دينهم فاستحقوا النصرَ والتمكين، فهل قدَّمت الأمةُ اليوم كما قدَّموا؟

فكان جوابي:

نعم، سيشهدُ التاريخ أنا رأينا صورًا من البطولات في الأمة لم يشهدها أسلافُنا ولم نقرأ عنها من قبل.

إذا كان في الأمة من سحَبَه المشركون على رمال مكة الحارة بضعَ ساعات، فقد رأينا من تفنَّنَ المجرمون بتعذيبهم حتى الموت بالمثقاب الحديدي والتيار الكهربائي، وأُجلسوا على الخوازيق.

رأينا من قضى في السجون سنواتٍ وهو عارٍ بلا ثياب مع شدَّة البرد، وقُلل عنه الطعامُ حتى التصقَ جلدُه بعظمه ليموتَ موتًا بطيئا.

رأينا مئات الآلاف بما فيهم العلماءُ والدعاةُ وحفظةُ القرآن يعذَّبون في السجون من أجل دينهم، ونُصرةِ قضايا أمتهم، منهم من قضى نحبَه في السجن ومنهم من ينتَظِرُ، وقد حكم على بعضهم بعشرات المؤبَّدات!

آلاف النساء انتُهكت أعراضُهنَّ في سبيل دينهن.

إن كان الناس يُقتلون في ما مضى بالسيوف والرماح فالقتلُ اليومَ بالصواريخ والحاويات المتفجِّرة التي تمزق الأبدانَ وتُفتِّت العظام، فكم من شهيدٍ دُفن في صندوقٍ كرتوني صغير لأنه لم يبق من أشلائه إلا ما تحمله اليد الواحدة.

إن كان الرعبُ فيما مضى ببرق السيوف فوق الرؤوس فرعب اليوم بأصوات المدافع والطائرات التي تُزَلزلُ الأرضَ، وتهدِمُ المباني الشامخات، وتبلغ بالقلوب الحناجر.

الموت اليوم بنكهة سموم الكيمياوي ووهج الفسفور الأبيض.

إن كان في سالف الأمة خنساءُ صبرَت على فقد أبنائها الأربعة في سبيل الله، فقد رأينا اليومَ مئات الخنساوات تفقدُ العشَرة وزيادة من أهلها فتحتسبهم عند الله وتقول: كلنا فداء للإسلام، ولم تذرف لها عين، وتسألُ الله لنفسها ولمن بقي من أهلها اللحاقَ بهم.

أليس من الظلم والإجحاف أن ننسى كلَّ هذه البطولات، وأن نتنكَّر لأكثر من مليون شهيد قُتل من الأمَّة في هذا العقد على يد الظالمين من الصها ي نة والصليبيين والرافضة والملاحدة، بسبب تخاذل من تخاذل، وخطأ من أخطأ؟!

هل تلوموننا على حُسنِ ظننا بالله الكريم الذي وعَد عبادَه بالنصر إن هم نصروه فقال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)؟!

أقولها وبكل صراحة.. لم أكن في وقتٍ من الأوقات أعظم تفاؤلا مني اليوم.

 لقد كان أكثر الناس في غفلة وجهل وسُبات عميق، نعم يأكلون ويشربون ويتنفسون ولكن بلا همٍّ ولا قضية، ووصل بهم الحال في غفلتهم أنهم يرون الشيعة إخوانا لهم، ويعوِّلون عليهم في تحرير فلسطين، فجاءَت هذه الأحداثُ لتُسقِط آخِرَ ما تبقَّى من قناع الدَجَل الذي يخفي وجوهَهم الكالِحة، ففضحتهم وهتكت سترهم أكثرَ من كلِّ المواجهات السابقة.

ووصلَ الحالُ في كرنفال التطبيع مع العدو أنَّ دوَلاً إسلاميةً ذات قيمةٍ اعتباريةٍ خاصَّةٍ أوشكت أن تضعَ عربتَها على سكَّة التطبيع العلني، لتلحقَ بالركب، فأوقفت الحربُ مسعاهم، وعطَّلت مشروعَهم إلى حين.

إنَّ لدينا في فلسطين والشام اليوم عشرات آلالاف من المجاهدين قد باعوا أنفسهم لله، ونذروها لقضايا أمتهم الكبرى، وفي الأمة عشرات الملايين من الأبطال الذين يتحرَّقون في تربُّصهم لملاقاة عدوِّهم حينما تُتاحُ لهم الفرصة، قد ألهبتهم الأحداثُ من حولهم، وصار الجهاد والشهادَةُ أشهى لأحدهم من الماء البارد على الظمأ.

 ولا ينبغي أن ننسى أنَّ أعداءنا قد دفعوا ثمنا باهظا في هذه الجولة، من عدد القتلى والجرحى والأسرى غير المسبوق منذ قيام كيانهم الغاصب وحتى اليوم .. إنهم يألمون كما نألم، ونرجو من الله ما لا يرجون، فقتلانا في الجنة وقتلاهم في الجحيم.

   وَفقَ هذه القراءة التي عرضتُها بإيجاز، يبدو أنَّ نصرَ الله تعالى قد اقتَرَب، والشواهدُ على ما ذكرتُ كثيرةٌ جدًا، ولا ينبغي أن يُفهم من كلامي هذا أنَّ النصرَ الكاملَ سيكونُ بالضرورة في بضعة أسابيعَ أو شهر، ولكني أقول: إنَّ الأمة اليوم في حالة نهضةٍ ووعي إيماني وسياسي غير مسبوق، وقد أبدَت من الصمود والتضحية في سبيل عزتها وانعتاقها ما يجعلها على الطريق الصحيح، وأما وقتُ بلوغ النهاية فعلمُه عند الواحد الأحد وحين يأذن، والله غالب على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين