غزة .. ادخلوها بسلام آمنين


 

عامر السيد عمر

غزة .. ادخلوه
 
كل توقعاتك التي قد ترسمها في مخيّتلك منذ اللحظة التي تبدأ بها رحلتك الى فلسطين .. تتبدد ، أياً كانت توقعاتك بيمينها او يسارها ، كلها ستتبدد ، تطأ قدمك أرض فلسطين .. تتنشق عبيراً محمّلاً بكثيرٍ من اللازورد ثم يأتيك الخاطر : ادخلوها بسلام آمنين ..
في اللحظة التي تعبر البوابة المصرية في اتجاهك الى غزة وتطالعك عبارة " أهلا بكم في فلسطين " تتجلى فيك كل ما المشاعر التي صنعت طفولتك المُحتلة .. تلك المتعلقة بكل شيء من فلسطينتك التي ولدت معك ، وأنت تقرأ صباحاً على الاذاعة المدرسية قصيدة عن فلسطين .. وأنت تكتب موضوعاً للتعبير عن حقل الزيتون الذي لم تره يوما .. وأنت تقف أمام البحر ثم يأتيك صوت من هناك يقول : هنا ثمة بعد الافق بقليل .. هنا فلسطين ، الهويّة الجمعيّة لكل العرب .. لكل صاحب حق أو مهجر .. لكل من أودع مظلمته السماء قبل الأرض ..
فلسطين .. تلك الكلمة التي لا تخلوا نشرة أخبار تسمعها رغماً عنك في حضرة العائلة منذ اللحظات الاولى من عمرك .. لحظات البدء بنطق الكلمة " فيليسطيين " .. لحظات تعلم عدّ الشهداء والانبهار بأضواء الانفجارات ، لحظات الادراك بأن هذه الأرض أبعد من أن تطأها، ثم لا يزيدك ذلك الا ثقلا الى كاهليك ، فلسطين .. كانت تسابيحاً طوال الطريق الطويل اليها الذي لم يبدأ من القاهرة الى رفح وحسب .. بل من اليوم الذي عرفت فيه أن فلسطين .. أرضٌ عربية محتّلة !
كل توقاعتك التي قد ترسمها في مخيّتلك منذ اللحظة التي تبدأ بها رحلتك الى فلسطين .. تتبدد ، أياً كانت توقعاتك بيمينها او يسارها ، كلها ستتبدد ، تطأ قدمك أرض فلسطين .. تتنشق عبيراً محمّلاً بكثيرٍ من اللازورد ثم يأتيك الخاطر : ادخلوها بسلام آمنين ..
بين رفح المصرية .. والفلسطينية!
خمس ساعات هي التي تفصل القاهرة عن معبر رفح ، " حُفّت الجنة بالمكاره "  هذا الحديث الشريف أول ما تبادر الى ذهني وأنا أدخل المعبر .. ثم تضيف نفسي : وحُفّت غزة بالمعابر! ، هذا المعبر كان بادارة الكيان الصهيوني حتى عام 2005 ليتحول لادارة السلطة الفلسطينية متمثلة بحركة فتح في ذاك الوقت وباشراف هيئات دولية ، ثم تستلم حركة حماس ممثلة بحكومة غزة بادارة المعبر ابتداء من 2007 ، وبعد ذلك حتى انتهاء الثورة المصرية عانى هذا المعبر حالات مد وجزر ما بين اغلاق رسميّ وفتحه في حالات ضيّقة ولفتراتٍ يسيرة في تكريس للحصار من الجار المصري وبأوامر مباشرة من الكيان الصهيوني ، والآن وحتى بعد الثورة .. المئة متر التي تفصل ما بين البوابتين تستغرق منك وقتاً أكثر من الوقت الذي تستغرقه ما بين القاهرة و رفح ، ساعات الانتظار تلك تقضيها دون الحق لك بالسؤال عن مصير جوازك الذي تعلم لاحقاً أنه مُرر على ثلاثة أجهزة أمنيّة - لا أدري ما الارهاب الذي قد يحمله المسافر الى غزة أكثر من ارهاب المحتل! - .. أكثر من 300 شخص في قاعة مكتظة عابرين الي سجن كبير ، الدخان يعبق بالمكان .. وسماسرة يريدون حمل حقيبك رغما عنك - رغم أنها صغيرة وقابلة للجر بسهولة ، من الغباء أصلا أن تحمل كثيرا من الأمتعة الى غزة .. أنت هناك لتبتاع كثيرا .. كثيرا من حرية وكرامة - ، وحاسوب معطّل لأكثر من ساعتين بلا سبب ، ثم يبدأ المنادي بقراءة أسماء المقبولين الى جحيم غزة فنفرح .. وينتهي دون أن يذكر بعض الأسماء ليكون مصيرهم العودة الى نعيم القاهرة .. فيحزنوا ، هذه الحالة من التناقض أعلنها أحد افراد الشرطة المصرية علنا : " يا ابني افرح .. انت رايح ترجع مصر أحسنلك .. رايح تعمل ايه بغزة .. هيا غزة أصلا فيها ايه! "
 عن غزة
غزة التي لا تحتل سوى 1.3 % من مساحة فلسطين الطبيعية تحوي بين جدرانها ما يقارب المليوني نفس بشرية ، الثلث منهم تتراوح أعمارهم بين الـ 17 و 29 عاماً أي أنه في غزة ما يزيد عن الـ 650 ألف فلسطيني شاب في ريعان عطائهم .. 45% من فئة الشباب هذه ملتحقون بالتعليم و 200 الف شاب حاصل على الدبلوم المتوسط فما فوق ، أكثر من نصفهم لا يجد فرصة 
عمل حقيقية !
الى جانب هذه الاحصائيات ، عندما تحتك بالشباب الفلسطيني في غزة تجده مثقفاً مدركاً للحالة الراهنة للقطاع مؤمناً بالقضية التي نذر نفسه لها حتى في ظل الحصار ، يقول عن نفسه : " لمرحلة ما قبل الـ 2011 والربيع العربي كان لدينا يقين بأن الشباب العربي وصل الى مرحلة الغياب التام عن القضية الفلسطينية وانها لم تعد تهمه ، لم يكن لدينا أي شغف باشغال أنفسنا بأن ثمة هناك شباب خارج الاسوار يهتم لأمر فلسطين او القضية ، كل ذلك تغير بعد الثورات ، شاء الاله ان ندرك ان ثمة من يشاركونا الحلم .. حلم الحرية " ، شكرا للثورات .. ليس فقط لأنها عرفتنا على أنفسنا ، بل لأنها عرفت غيرنا علينا !
حسب التعريف العالمي للفقر ، فان ربع الشباب الفلسطيني في غزة تحت خط الفقر ، ولو سألتني عن تعريفي الشخصي لحد الفقر - بأن يوفر دخل الشاب له متطلبات الحياة بسهولة ويسر - لقلت أن 90 ٪ من شباب غزة تحت خط الفقر !
الفقر ليس مجرد حالة رقميّة تمثلها خطوط الاحصاء صعودا وهبوطا على علاقتها بالدخل القومي او الفردي ، الفقر شعور جامع بالحاجة في ظل انقطاع أسباب الحياة ..
في غزة ، 7 من كل 10 شباب يستخدمون الحاسوب ، واكثر من 40 ٪ لديهم ايميلات يستخدمونها باستمرار ، و 75 ٪ لديهم هواتف محمولة في مؤشر لحالة ممتازة من مواكبة التطور والتكنولوجيا .  
كان لنا لقاء مع وزير الشباب والرياضة في غزة ، وقد تستغرب أنّي سمعت عن فعاليات للشباب وشاهدت مخرجات مشاريع بما يوازي دولا عربية ، الحرب والقصف والحصار والاحتلال لا يعني عدم الحياة ، هذا ما تهمس به غزة لأبنائها صباح كل يوم .
 صيّادوا غزة
ذات ليلة وأنا اعود الى مكان اقامتي والذي كان يحدّ البحر مارّا بميناء غزة لمحت اضاءات مختلفة في عرض البحر ، سألت السائق عنها فقال أنها مراكب الصيادين التي لا تستطيع تجاوز هذه المسافة في البعد عن الشاطئ في حلقة أخرى من مسلسل الاحتلال الذي يعانيه الفلسطينيون كل يوم
ميناء غزة الوحيد - ان استحقت تلك البقعة البحريّة أن يطلق عليها اسم ميناء - هي المنفذ البحريّ الوحيد الذي تنطلق منه القوارب الى كسب قوتها قبيل الفجر بساعات لتعود محمّلة بما قدّر الاله لها من رزق البحر ، هذا البحر الذي يمتد الى ما بعد الافق بكثير يمنع الاحتلال أهله من تجاوز 3 أميال بحريّة عن الشاطئ ومن يتعدّى ذلك فمصيره في أقل التقادير هي الاهانة وحجز المركب ان لم يكن القتل
لقطاع يتمد جزءه الغربي بأكمله على البحر بمسافة تزيد على الـ 40 كيلو متر ليس لـ 4000 آلاف صياد في غزة الا هذا الميناء المتواضع - والذي يحرمهم الكيان من التنّعم به كما يشاؤون-  تعكف تركيا على اعادة بنائه بعد أن توشّح بأسماء التسعة شهداء الأتراك الذين حاولوا الوصول اليه على متن سفينة مرمرة .. لكن الجنة كانت أقرب
غزة والمقاطعة
مع احدى موائد الغداء قُدم لنا المشروب الغازي الشهير " كوكاكولا " الذي يعد أهم البضائع اليهودية في العالم دعماً لاسرائيل ، ودائما في ما يكون على رأس قوائم البضائع في حملات المقاطعة ، الأمر الذي اثار حفيظة احد المشاركين والذي كان من بريطانيا تحديدا ثم قال : " عجيبون أنتم يا أهل غزة .. العالم كله يقاطع الكوكاكولا لأجلكم .. وأنتم تشربونها " !
قد تستغرب ولكن في غزة لا يقاطعون البضائع الاسرائيلية .. قطاع غزة المحاصر تكاد تكون نسبة الانتاج فيه تؤول الى الصفر .. ويعتمد في 80 ٪ من تجارته على البضائع التي تأتيه من الكيان الصهويني .. والـ 20 ٪ الباقية هي بضاعة مهربّة عبر الأنفاق او عبرت معبر رفح بشق الأنفس او ما يسمى انتاجا داخلياً من تحف او منسوجات .
قطاع غزة يسلّم الاحتلال يوميّاً قائمة بالمواليد حتى تضاف الى السجلات الرسمية في الضفة كمواليد لدولة فلسطين وهناك معابر مع الاحتلال يدخل منها بضائع و وقود الى القطاع أو يعبر عاملون من القطاع الى الأراضي المحتلة .
ثنائية الماء والكهرباء
لا يخفى على الزائر في غزة شحّ الكهرباء التي تُقطع باستمرار ، كُنت في زيارة لصديق وفجأة قطعت الكهرباء فقال : " عادي عادي " ، ثم ما لبثت أن عادت سريعا ليقول : " اشتغلت الموّلدة " .. ثم بعد مدة قطع الكهرباء مرة اخرى ولمع ضوء خافت في الحائط فقال صديقي : " خلص الديزل تبع الموّلدة .. وهذا الضو البسيط بشتغل ع البطارية " .. ولو انطفأ هذا الضوء أيضا لكانت مواقد الزيت او الشموع جاهزة ، هنا لا نهاية لحيل الحياة!
في غزة محطّة توليد وحيدة للكهرباء تساندها اخرى مصريّة في العريش ، قصفت الأولى أكثر من مرّة وتعرض كثير من أجزائها للدمار جعل من أمر تغطيتها للقطاع بأكمله استحالة ، اضافة الى تقنين الاحتلال في الوقود الذي يصل اليها او منعه أحيانا مما يعني مضاعفة ساعة قطع الكهرباء .
مياه البيوت هي ذاتها مياه البحر الذي يمتد شاطئ غزة عليه ، الا أن وسائل التحلية لا تخفي مظاهر الملوحة فيه مما لا يجعله صالحا للشرب ، فأخذت ماليزيا على عاتقها توريد مياه الشرب للقطاع بأكلمه .
غزة وأنفاق الحياة
ولأن الحاجة أمّ الاختراع ، لم يقف أهل غزة مكتوفي الأيدي في ظل الخناق المفروض عليهم ، بل اتخدوا من محنة الحصار فوق الارض الى منحة الأنفاق تحت الارض فأخذوا يحفرون أنفاقاً تصل طرفي مدينة رفح ببعضها على أعماق تصل الى 20 متراً تحت الارض ، ويتمد بعضها الى مسافة تزيد عن الكيلو متر ، وهيئوا فيها أسباب التهوية والاضاءة يمر من خلالها البشر والبضائع والأدوية والحديد والحجر لتوفير قليل من حياة في القطاع .
نشطت حركة الانفاق بعد 2006 وغدت مصدر دخل جيد للكثيرين في ظل الحصار المتواصل ، وزاد عدد الأنفاق بشكل ملحوظ ليصل لأكثر من 3000 نفق بأحجام وأطوال مختلفة ، هدمت السلطات المصرية 70 ٪ منها
الأنفاق في غزة ليست محض فوضى ، هناك هيئة حكومية في غزة للاشراف على الأنفاق ولها موظفون ورجال أمن متواجدون في منطقة الأنفاق بشكل دائم ، لا يدخل أحد او بضاعة او دواء او مواد بناء الا وتعلمها الهيئة وباشرافها ، حتى اولئك الذي يريدون زيارة القطاع عبر الانفاق يجب عليهم التنسيق بشكل مسبق مع الهيئة او الحكومة في غزة ليتم الكشف عن اسمه وسجله الامني ثم يسمح له او يمنع ، كذلك عند الخروج هنالك تنسيق عليك القيام به مع الهيئة قبل ذلك !
غزة .. والأعلام القطرية الماليزية التركية !
لأي زائر لغزة لا يخفى عليه انتشار أعلام قطر وماليزيا ، ومؤخرا بعد حادثة سفينة مرمرة أعلام تركيا في أرجاء القطاع .. ابتداء بالأخيرة التي أخذت على عاتقها اعادة بناء ميناء غزة اضافة الى المشاريع الاغاثية والتنموية والاعتذار الأخير لها من الكيان الصهيوني والذي من ضمنه رفع الحصار على غزة ، ماليزيا التي تقدّم المياه الصالحة للشرب للقطاع برمته اضافة الى مشاريع انمائية واغاثية وقطر في اعادة الاعمار والاغاثة الطبيّة .
وهذه دعوة لكل الدول للاستثمار في غزة ، ولا أقصد الاستثمار بالحجر بل بالبشر ، وليس لأجل الأعلام بطبيعة الحال ولكن لأجل الأعمال التي تسجّل ويكتبها التاريخ ولأجل الدم المشترك في عروقنا .
فلاشات غزواية
●    منزل رئيس الوزراء اسماعيل هنية يقع في مخيم الشاطئ وهو يعدّ منطقة فقيرة .. رغم أن هنالك فيلا مخصصة لرئاسة الوزراء الا أنه رفض مغادرة منزله ، أمام المنزل ليس هناك ما يمنعك عنه سوى حاجز بحديدة أفقيّة يأكلها الصدأ ورجل أمن وحيد .
●    منزل الشهيد الشيخ الياسين  بتواضعه حوّله أبناؤه الى مزار لحجاج غزة ، وكرسيّه وعباءته شاهدة للعيان على طغيان المحتل ، أثناء زيارة منزل الشيخ أحفاده كانوا حولنا وفي استقبالنا اضافة الى زوجته وأبنائه وبناته ، وهذا الحال مع كل الوفود التي تأتي .
●    كنا نركب في سيارة أجرة في وقت متأخر من الليل .. أوقفنا حاجز للشرطة الفلسطينية نظر في وجوهنا ثم قال للسائق : “ صلي ع النبي “ .. ومشينا .
●    الأكلة الشعبية “ الحمص والفول والفلافل “ .. جربتها في الأردن وسوريا وتركيا ، الا أنها في فلسطين كان لها طعم مختلف .. مختلف جدا .
●    هنالك شبكة هاتف جوّال وحيدة .. ولا يتوّفر في القطاع خدمة الانترنت G3 بسبب منع الاحتلال لذلك .
في غزة هنالك بشر .. وأناس يأكلون ويشربون ويتزوجون .. لديهم أحلام بحجم العمر وأطفال بعمر الورد .. في غزة فنادق بخمسة نجوم وأبراج تناطح السماء .. في غزة حدائق ونخيل وشاطئ بديع .. في غزة رجال حملوا همّ هذي الأرض فأودعوها صدورهم فامّا جنّة واما فلسطين .. ونساء كنّ على قدر العزم فأنجبوا اولئك الرجال ..  في غزة تأكل فواكه استوائية لا مثيل لها وتمشي على أرض مرصوفة بالحكايات  ، لا أدر لم كان يخيّل الينا أن ليس في غزة الا دمار !
في قطاع غزة ، تتحرر اللغة من أدبيّاتها تماما كما اختارت هذي الأرض لنفسها أن تكون ، حزوز الموت التي تحيط بالجهات الأربعة غدت بوابة عبور للحياة الأخرى ، الموت هنا ليس الا هامشيّاً في حضرة صلوات الصمود و وجه الحصار الذي يُكسر كل يوم شيئا فشيئا ، السلام عليك يا غزة .. والمجد للشهداء



 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين