عشت مع آية: (الذي أحلنا دار المقامة من فضله)

قرأ الإمام اليوم في صلاة الفجر قوله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} سورة فاطر، فهيج في القلب ما هيج. فلو لم يكن في الجنة إلا دوام الإقامة وتوقف الترحال لكفى، فقد أتعبنا والله كثرة فراق من نحب، وطول بعاد من تهفو قلوبنا لمرآهم. أتعبتنا لوعات الاغتراب، وأنات القلوب لفراق الأحباب.

 

دار المقامة حيث الشبع من مجالس الكرماء ومسامرة الأخلاء..

دار المقامة حيث لا ينغص السعادة خوف موت أو خشية فوت.

دار المقامة حيث لا ينتهي عقد الإيجار، ولا يقطع على المحبين كثرة الأسفار.

 

ودعت يوما أخا حبيبا منذ سنوات على الهاتف قبل أن يدخل الطائرة ثم بكيت، وقلت في نفسي: رب لا تحرمنا الجنة فتجمع علينا ألم الفراقيْن، فراق هنا وفراق هناك.

 

ورضي الله عن عمر، لما ذهب ليفتح بيت المقدس طال عناقه لأبي عبيدة حتى لكأن فرحته بلقيا من يحب لا تقل عن فرحته بمفاتيح بيت المقدس!

 

ما أوجع قلوب المتحابين في الله وقد تفرق أحبابهم في كل واد. فالقبور أخذت حظها من أحبتهم، والأسفار كذلك، والدنيا بمشاغلها أتت على البقية، حتى أصبح بعضنا يخرج من الدنيا ولم يرو ربع ظمئه ممن أحب.

 

كنت قديما أتعجب من شوق عمر لأبي بكر ومعاذ وأبي عبيدة من العشاء إلى الفجر حتى كان يقول لأحدهم في صلاة الفجر: ما أطول الليلة يا فلان، لقد بت أتقلب الليلة في فراشي فلم أنم شوقا إليك!

كنت أتعجب من هذه الأشواق، حتى اكتوى قلبي بتفرق الأحبة في الآفاق، فعلمت كم يُعمِل الشوق عمله في الأعماق.

 

واشوقاه إليك يا دار المقامة! فلن يطبب أوجاع المتحابين في الله إلا أنت.

وحتى يدخلنا الله وإياكِ -إن كنا من أهلك- سنظل نسكن أوجاع أشواقنا بالدعوات والدمعات حتى تجمعنا الجلسات والتكؤات والضحكات على أرائك الجنة. هناك في دار المقامة. حيث لا وجع ولا سآمة. 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين