عام جديد

 

لما قعدت أكتب هذا الفصل ، لم يكن في ذهني شيء عن الموضوع الذي أكتب فيه ، ولكني نظرت في التقويم المعلق بالجدار فوجدت الموضوع . الموضوع (أول المحرَّم(
أفيمرّ بكم أول المحرم ، كما يمر غيره من الأيام ، وفي صبيحته ولد عام ، وفي ليلته قضى عام ؟
يجتاز المسافر مرحلة من الطريق فيحطّ الرحال ، ويقف ليستريح ، فيتلفت وراءه ليرى كم قطع وينظر أمامه ليبصر كم بقي .
والتاجر تنتهي سنته ، فيقيم موازينه ويحسب غلته ، ليعلم ماذا ربح وماذا خسر .
وهذه (محطة) جديدة ، نقف فيها ونحن نسير على طريق الحياة وسنة أخرى تمضي من العمر ، أفلا نقف ساعة نفكر ونذكر ونحسب ونعتبر ؟
نحن اليوم في أول المحرم من سنة ست وثمانين وثلاث مئة وألف ، ننظر إليه في الفجر ، فنراه يوماً طويلاً يمتد أمامنا ، نستطيع أن نعمل فيه ما نشاء ، نستمتع فيه (إن أردنا) بدنيانا ، ونحمله ما نريد حمله من الزاد إلى أُخرانا ، فإذا أمسى المساء وذهب اليوم لم نعد نستطيع أن نستفيد منه ولا أن نستمتع فيه .
نظنه باقياً لنا ، فـ (نُبَذِّر) في دقائقه ، كما يبذر المسرف في ماله ، ونضيع ساعاته ، ولكننا لا نجده حتى نفقده . إنه لا يكاد يبدأ حتى ينتهي ثم يمضي ، فلا يعود أبداً .
اذكروا الآن أول يوم من المحرّم سنة خمس وثمانين ، لقد كنا نراه ونحن نستقبله طويلاً ، وكنا نقدر أن نصنع فيه خيراً كثيراً ، فأين هو منا اليوم ؟ وأين الأول من المحرم سنة أربع وثمانين ؟
وأين أوائل المحرمات التي مرت بنا ، أو مررنا نحن بها من قبل ؟ ماذا بقي منها في أيدينا ؟
تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها ، فمن لم يعمل خيراً فيها ، عمله في التي تليها .
إن فاتك عمل الخير في النهار ، فعندك الليل (خِلْفَةٌ) منه ، فاعمل الخير فيه . مواسم متتابعة ، إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه ، فازرع الذي يليه .
وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران ، فعندك دورة أيلول .
هي خِلْفَةٌ لك ما بقيت حياً ، ولكن هل تعلم كم تبقى حياً ؟
* * *
ينقضي العام فتظن أنك عشته ، وأنت في الحقيقة قد مِتّه ، لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال .
أنت كالموظف الذي منح إجازته السنوية ، شهراً كاملاً ، إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين ، فإذا مر عشرون صار الشهر عشراً ، فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن .
أتظنون أني (أتفلسف) ؟ لا والله ، بل أصف الواقع .
نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العدِّ ، نقصت من عمره سنة في الحقيقة ، حتى ينفد العمر ، ويأتي الأجل ، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت .
فتحت كتابي (من حديث النفس) فقرأت فيه فصلاً نشرته في العدد الممتاز من مجلة الرسالة في مطلع سنة 1938 ، عنوانه (على أبواب الثلاثين) ، لو تصورت يومئذ أني سأقرأه في مطلع سنة 1966 ، لتراءى لعيني دهر طويل ثمان وعشرون سنة ، أنظر إليها الآن ، بعد ما مرّت ، فأراها كأنها يوم وليلة .
ولو نظرت الآن إلى ما بعد ثمان وعشرين سنة إلى سنة (1994) لرأيتها بعيد جداً ، ولكن من يقرأ هذا الفصل يومئذ سيرى سنتنا هذه كأنما كانت بالأمس .
فنحن نوسع المستقبل بالأمل .
* * *
وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه ، ونكدّ من أجله ؟
لمّا كنت طالباً كان مستقبلي في نيل الشهادة ، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة . فلما وصلت إليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار ، وإنسال الولد ، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحفَدة ، صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدخر ، وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات ، فلما تم لي بفضل الله ذلك كله ، لم يبق لي مستقبل أفكر فيه ، إلاّ أن ينوِّر الله بصيرتي ، ويريني طريقي ، فأعمل للمستقبل الباقي ، للآخرة ، وإني لفي غفلة منها .
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له ، إنه يوم لن يأتي أبداً لأنه إن جاء صار (حاضراً) وطفق صاحبه يفتش عن (مستقبل) آخر ، يركض وراءه .
إنه (كما قلت مرة) مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها ، وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً .
إن المستقبل الحق في الآخرة ، فأين منا من يعمل له ؟ بل أين من يفكر فيه ؟
* * *

وقد يكون هذا الذي أقوله (فلسفة) ، ولكنها فلسفة واقعية ، إنها حقائق لا يفكر فيها أحد منها .
نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة ، همُّه الغرفة الجميلة ، أو المقعد المريح ، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ، ويتصفح الجرائد والمجلات وينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد ولكن هذا كله لأيام في السفر ، وأيام السفر معدودة ، أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه ؟
أما كان أنفع له لو تحمَّل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة ، ووفر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة ؟
أم قد شغلته متعة السفر عن التفكير في سبب السفر ، وجمال الطريق عن غاية الطريق ؟
الحياة سفر ، فكم من الناس يسأل نفسه لِمَ السفر ؟ وإلى أين الرحيل ؟ كم منا من يسأل ما الحياة ؟ ولماذا خلقنا ؟ وإلامَ المصير ؟
إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء ، في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا ، ونبدد بها أعمارنا ، من أحاديث تافهة ، ومجالس فارغة ، ومطالعات في كتب لا تنفع ، أو نظرات في مجلات لا تفيد ، فإن خلا أحدنا بنفسه ، ثقلت عليه صحبة نفسه ، وحاول الهرب منها ، كأن نفسه عدو له لا يطيق مجالسته ، فهو يضيق بها ، ويفتش عما يشغله عنها ، وكأن عمره عبء عليه ، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه ، وأن يتخلص منه .
***

نفرّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا ، في لذائذ نتوهمها ، ونسعى وراءها ولكننا لا ننالها .
ولما كنت أشرف على طبع كتاب ابن الجوزي (صيد الخاطر) الذي قدمت له وعلقت عليه ، وجدت فيه كلمة عظيمة ، يقول فيها (إن لذائذ الدنيا نماذج تعرض ولا تقبض(
نماذج (ريكلامات) للعرض والإعلان ، لا للبيع والاقتناء ، فأنت تسر برؤيتها ، ولكن لا تقدر على امتلاكها .
خذوا أكبر لذات الدنيا ، (اللذة المعروفة …) تروا أنها ليست في الحقيقة إلاّ لحظة ، دقيقة أو دقيقتين ، لا تكاد تحس بأنك قد وصلت إليها ، حتى تجد أنك قد فقدتها .
إنها ليست إلاّ (نموذجاً) مصغراً للذة الآخرة ، فما يستمر هنا دقيقة فقط ، يدوم هناك إلى الأبد .
إنك فيها كمن يعطى ملعقة من الطعام ليذوقه ويجد طعمه في حلقه ، فإذا ارتضاه اشترى منه فأكل حتى شبع .
فالذواق في الدنيا والشبع في الآخرة .
لذلك ترى الرجل الفاسق ، يشكو (الجوع الجنسي) مهما (ذاق) من الحرام يعرف مئة من النساء ، ثم يرى الواحدة بعد المئة فتطلبها نفسه ، كأنه ما عرف امرأة قط ، ولا يزال كذلك حتى يعجز جسده ، ولا تكل رغبته ، فهو كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر ، وكلما ازداد شرباً ، ازداد عطشاً .
وما عهد فاروق ببعيد .
ومثلها لذة المال .
إن الفقير الذي ينام في كوخ الطين ، ويأكل خبز الشعير ويمشي بالحذاء البالي ، أو يركب عربة النقل ، التي يجرها الحمار ، يتصور لو أنه نام يوماً على فراش الغني ، أو أكل على مائدته ، أو ركب في سيارته ، لنال اللذائذ كلها ولكن الغني الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يجد فيه لذة ، بل يجد الألم إن فقد منه شيئاً .
والشاب المغمور ، يتمنى أن يكون علَماً مشهوراً ، تردِّد الإذاعات اسمه وتنشر الصحف رسمه ، ويتحدث الناس عنه ، ولكن العالم المشهور أَلِفَ ذلك لم يعد يهتم به ولا يباليه .
إن لذّات الدنيا مثل السراب ، ألا تعرفون السراب ؟ تراه من بعيد غديراً ، فإذا جئته لم تجد إلاّ الصحراء . فهو ماء ولكن من بعيد !
عفواً يا سادتي القراء ، إن جئت أعظكم وأزهدكم ، فما أردت وعظاً ولا تزهيداً ، وما أنا من الوعاظ الزهاد ،ولكنها خواطر أثارها في نفسي أننا في اليوم الأول من المحرَّم ، وإني وقفت كما يقف المسافر ، وقعدت أحسب كما يحسب التاجر .
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها ، فأرانا كموكب من السيارات ، تمضي مجنونة مسرعة ، متسابقة ، همّ كل واحدة أن تسبق الأخرى ، وتخلفها وراءها ، ولكن لو سألت سواقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون ؟ لما وجدت عندهم جواباً .
سباق إلى المال ، سباق إلى اللذات ، سباق إلى الوظائف ، سباق في كل طريق من طرق الحياة .
ثم ينتهي العمر ، فنترك كل ما استبقنا إليه ، ونمضي ! فلنقف لحظات في مطلع كل عام ، لنسائل أنفسنا ما الذي نربحه من هذا السباق ؟ أو ليس ( الربح ) الحق من جهة أخرى ، غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ، ويحسبون أن الربح المقصود فيها ؟
إن هذا اليوم نذير لنا ، بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنة المودعة ، وإن كل واحدة منها تحمل معها جزءاً من أعمارنا ، حتى تنفد أعمارنا فلنتدارك ما بقي ، ولنكن يوماً واحداً في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق ، والمتواصين بالصبر .
إنكم تقرؤون في المجلات كلاماً جليلاً يزيد ثقافة عقولكم وكلاماً جميلاً يدخل البهجة على قلوبكم وكل هذا خير ، ولكن خيراً منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم ، وتنفعكم يوم العرض على ربكم .
وما أصلح والله لأن أقول أنا هذه الكلمة ، وأنا إلى أن أُوعظَ فأتَّعظ ، أحوج مني إلى أن أَعِظَ ، ولكن (على مدير الكاس أن ينهى الجلاس ).
لمّا أردت أن أسافر إلى جدة ، من بيروت ، قعدت في مطعم المطار ، أفطر وأنتظر ، وكان المطعم ممتلئاً ، وكل من فيه يأكل ويشرب ويتحدث ، مثلما كنت آكل وأشرب وأتحدث ، تراهم فتحسبهم أصدقاء متلازمين لا يفترقون . وأنّ شمْلهم جميع لا يتشتت ، ولكن مطار بيروت الذي تحط فيه كل ربع ساعة طيارة ، وتقوم منه طيارة ، لا يلبث الصوت أن يخرج منه ينادي من (المكبّر).
ركاب طائرة (boac) المسافرة إلى لندن ، يتوجهون إلى أرض المطار . فتترك أكلها وشربها جماعة من الحاضرين ، وتقوم .
ثم ينادي :
ركاب طائرة (klm) المسافرة إلى جاكرتا .
فيترك ناس أكلهم وشربهم ويقومون .
وطائرة إلى أمريكا ، وأخرى إلى الكونغو ، وثالثة إلى إيران ، ورابعة إلى موسكو .
فنظرت إلى الناس وقلت لأخي ، وكان معي : هذه حياتنا .
نعكف على طعامنا وشرابنا ، ومشاغل حياتنا ، وإذا بالنداء يدعو منجاء دوره) ليذهب إلى حيث يحمل ، إما إلى غابات أفريقية ، وإما إلى ثلج سيبيريا ، وإما إلى ملاهي باريز ومشاهد نيويورك .
فمن كان مستعداً للسفر ، حاجاته مقضية ، وحقائبه معدة ، وحمله خفيف ، مضى مستريح البال ، ومن (جاء دوره) ، وهو لم يعد متاعه ، ولم يقض حاجته ذهب بلا زاد ، ومضى على غير استعداد .
أفلا نستعد للسفرة التي لا بد منها ، ونتزود لها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها ؟
أم نحن نتناسى الموت وهو أمامنا نظنه أبعد شيء عنا ، وهو أقرب الأشياء منا ، نصلي على الأموات ونشيع الجنائز ، ونحن نفكر في أمور الدنيا ، كأنا مخلدون فيها ، وكأن الموت كتب على الناس كلهم إلاّ علينا ؟
يا إخوتي القراء:
إننا نعيش الأيام كلها في غفلة ، فلننتبه اليوم ، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة ، ينظر كم قطع من الطريق وكم بقي عليه منه ؟ ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاتره التاجر ، لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا ؟ ولنمد أيدينا ، فنقول : يا ربنا ، اغفر لنا ما سلف ، ووفقنا فيما بقي .
اللهم إذا كتبت لنا ، أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل ، فاجعل ما يأتي … خيراً لنا ، وللمسلمين مما ذهب ، … وإلا ، فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسن الخاتمة ، واغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار .
(كتاب : صور وخواطر – علي الطنطاوي)


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين