صحيح البخاري: تمامه -6-

 

قالوا: حدثنا عن معنى كون صحيح البخاري كتابا تاما. 

قلت: لم يجمع في كتابه إلا الحديث الصحيح الذي توفرت فيه شروطه، ولم يترك إلا الحديث الذي لم تتوفر فيه شروطه، فهو كتاب تام في هذا المعنى لا ينقصه شيء.

قالوا: أو ليس من العلماء من خالفك في الأمرين جميعا؟ 

قلت: بلى، فمنهم من انتقد أحاديث في صحيح البخاري على أنها ليست على شرطه، وأجلُّ الناقدين له الإمام الدارقطني في كتابيه (التتبع) و(العلل)، ومنهم من استدرك عليه أشياء زعمها على شرطه، فألزمه إدخالها في كتابه، وعلى رأسهم الدارقطني في كتابه الإلزام، وأبو عبد الله الحاكم النيسابوري في كتابه المستدرك.

قالوا: أو لم يخالفك الحفاظ في الأمر الثاني ذاهبين إلى أن البخاري لم يلتزم استيعاب الصحيح، وقد قال هو نفسه: "تركت من الصحيح خشية أن يطول الكتاب"؟

قلت: قد أخطأوا في ذلك وأخطأوا في تفسير قول البخاري، فالصحيح درجات، وكتابه مختص بأعلى درجات الصحيح، ولها صفاتها، فضمَّن كتابه ما استوفى تلك الصفات، وترك الصحيح الذي لم يستوفها، ولم أعثر إلى الآن على حديث واحد في العالم يمكن أن يستدرك عليه، ولو لم يتعهد البخاري باستيعاب ما على شرطه لما كان لإلزام الدارقطني معنى، إذ قال في مقدمة الإلزام والتتبع: "ذكرنا مما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما من حديث بعض التابعين، وتركا من حديثه شبيها به، ولم يخرجاه، أو من حديث نظير له من التابعين الثقات ما يلزم إخراجه على شرطهما ..."وقال الحافظ ابن الجوزي: "... ثم قوله (أي قول الدارقطني) ما يلزم البخاري دليل صريح على ما قلته، لأن من أخرج الأنموذج لا يلزمه شيء" (صيد الخاطر ص 164).

قالوا: فما تقول في هذه الأحاديث الكثيرة التي استدركها الحاكم عليه وألزمه الدارقطني إدخالها، وتبعهما العلماء إلى يومنا هذا، يصححون أحاديث ويقولون: إنها صحيحة على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما؟

قلت: سأذكر لكم أمثلة تثبت أن الذي زعموه باطل.

فأكبر من ألزم الدارقطني البخاري إخراج حديثه هو حماد بن سلمة بن دينار، وهو إمام جليل الشأن ولكنه كثير الخطأ والوهم، ولعل أسلم أحاديثه ما رواه عن ثابت البناني، فاقتصر عليه مسلم من بين سائر أحاديثه في الأصول، ورجح البخاري تجنبه في الصحيح، وهذا اجتهاده، وله وجهه.

وهناك رجال ونساء من الصحابة لم يرو عنهم إلا واحد، ولم يخرج البخاري عنهم، فألزمه الدارقطني إخراج أحاديثهم، لأن البخاري أخرج في الصحيح عن رجال من الصحابة وليس لهم إلا راو واحد، وأرى أن الدارقطني لم ينتبه للفرق بين النوعين، فالذين أخرج لهم البخاري هم صحابة معروفون، والذين لم يخرج لهم هم مجهولو الصحبة فلا يخرج لهم إلا إذا كان لهم راويان على الأقل ليخرجوا عن حد الجهالة.

وأما استدراك الحاكم وغيره فأضرب لكم أمثلة توضح أن الاستدراك غير صحيح، وأن البخاري ترك تلك الأحاديث لعلة من العلل، فمثلا قال أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن أيوب، عن نافع، عن عياش بن أبي ربيعة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تجيء ريح بين يدي الساعة تقبض فيها أرواح كل مؤمن". وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق الدبري، أنبأنا عبد الرزاق، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. والصواب أن إسناده منقطع، فإن نافعا مولى ابن عمر لم يدرك عياش بن أبي ربيعة، قال المزي في ترجمة عياش: روى عنه عمر بن عبد العزيز مرسلا، ونافع مولى ابن عمر كذلك.

وأخرج الحاكم من طريق أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن قتادة، عن أنس في قوله عز وجل (عند سدرة المنتهى) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رفعت لي سدرة منتهاها في السماء السابعة ... الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وفي المستدرك وغيره أحاديث لمعمر عن قتادة وثابت والأعمش، قالوا فيها: إنها صحيحة على شرط الشيخين، والصواب أن البخاري لم يخرج شيئا لمعمر عن هؤلاء لعدم ضبطه أحاديثهم. قال الدارقطني في العلل في معمر: سيئ الحفظ لحديث قتادة والأعمش، وذكر ابن رجب في شرح العلل عن ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه، إلا عن الزهري وابن طاوس فحديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئا. وقال يحيى: وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة مضطرب كثير الأوهام.

وقال الحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان: حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه، ثنا محمد بن غالب، ثنا محمد بن سابق، ثنا إسرائيل عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء. قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. قلت: وأخرجه الترمذي من طريق محمد بن سابق عن إسرائيل به، وخولف محمد بن إسحاق، فرواه إسحاق بن يزيد العطار عن إسرائيل عن محمد بن عبد الرحمن عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، أخرجه الخطيب. وخولف إسرائيل عن الأعمش أيضًا، فرواه البزار من طريق زكريا بن عدي عن حفص بن غياث عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله.

قالوا: فما تقول في أحاديث انتقدها الدارقطني وغيره؟

قلت: هي على درجات، والبخاري هو المصيب في أكثرها كما اعترف الدارقطني، والقليل الذي خالف فيه البخاري هو من قبيل ما اختلف فيه إمامان حافظان، وللبخاري وجهه وللدارقطني وجهه، وأقتصر هنا على مثال واحد يبين الأمر، قال البخاري في الوضوء، باب لا يستنجى بروث: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجد، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: هذا ركس. وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق: حدثني عبد الرحمن.

وأخرجه الترمذي في جامعه، قال: حدثنا هناد وقتيبة، قالا: حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله ... قال الترمذي: سألت عبد الله بن عبد الرحمن: أي الروايات في هذا الحديث عن أبي إسحاق أصح؟ فلم يقض فيه بشيء، وسألت محمدا عن هذا فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله أشبه، ووضعه في كتابه الجامع. وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله، لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس بن الربيع. وذكر الترمذي بإسناده إلى شعبة عم عمرو بن مرة قال: سألت أبا عبيدة بن عبد الله هل تذكر عن عبد الله شيئا؟ قال: لا.

قلت: وأطال الدارقطني الكلام، ثم قال: ...عشرة أقاويل عن أبي إسحاق، أحسنها الإسناد الأول الذي أخرجه البخاري، وفي النفس منه شيء لكثرة الاختلاف على أبي إسحاق، فمع أن الدارقطني لم يقتنع بما ذهب إليه البخاري، ولكنه رآه أحسن الأقوال، والسبب أنه متصل، وأن زهيرا متأخر، وفي حديثه تصريح بأن أبا إسحاق ذكر هذا الإسناد وهو على علم بإسناد أبي عبيدة، وتابعه على ذلك حفيد أبي إسحاق نافيًا شبهة التدليس بقول أبي إسحاق: حدثني عبد الرحمن.

قالوا: فكيف تعذر البخاري في الرواية عن الضعفاء في كتابه كفليح بن سليمان، وإسماعيل بن أبي أويس، وغيرهما؟

قلت: لا يلزم من الإخراج عن الضعفاء أنه أخرج أحاديثهم الضعيفة، واعلموا أن أمر الضعفاء في صحيح البخاري يرجع إلى أسباب واضحة، منها أن الراوي يروي من كتاب موثوق به معلوم النسبة إلى صاحبه مستفيض عنه، أو أن الراوي اختلف في توثيقه وتضعيفه، والصواب فيه هو التوثيق، أو أنه ضعيف فيما انفرد به من الأخبار أو في روايته عن شيخ بعينه، أو أنه رمي بالاختلاط فصح الأخذ عنه قبل الاختلاط، أو أن حديثه جاء متابعة أو استشهادا، ولا يخفى على من نظر في جامع البخاري أنه إنما انتقى أحاديث للضعفاء ثبتت لديه صحتها بدلائل بيَّنها في مواضعها.

انظر الحلقة الخامسة هنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين