سنة التدافع وحركة التاريخ

نشرت منذ أيام قليلة مقالة عنوانها "طوفان الأقصى وحركة التاريخ" فعلّق عليها بعض الإخوة الأفاضل تعليقات سلبية مشحونة باليأس والإحباط، خلاصتها قولهم: "هذا كلام عاطفي وتنظير حالم وقراءة مفصولة عن الواقع، فماذا انتفع أهل غزة بطوفانهم إذا كانت النتيجة النهائية هي الموت والدمار؟". وهي مقالة قالها من قبلهم قوم نظروا بالمنظار نفسه إلى ثورات الربيع العربي التي دفعنا فيها ثمناً غالياً ولم نبصر ثمرتها العاجلة فقالوا: ماذا استفاد أهل الثورة من ثوراتهم إذا كانت النتيجة النهائية هي انتصار الباطل وخراب البلدان والتشرد في أقطار الأرض؟

إن مشكلة من يردد هذه المقالة ليست في مشاهدة الواقع الذي آلت الثورات إليه، بل في ظنهم أن هذا الواقع المرير هو النهاية، هو "النتيجة النهائية" كما يتصورون وكما يقولون. مشكلتهم أنهم انتظروا نتائج فورية وثمرات معجَّلة، فلما لم يبصروها في حياتهم القصيرة حكموا على الثورات بالفشل وحسبوا أنها قد وصلت إلى آخر الطريق. ولكننا -نحن المسلمين- لا ننظر إلى أمثال هذه الحوادث الجِسام بعين الحال بل بعين المآل، إننا نقيسها بأعمار الشعوب لا بأعمار الأفراد، ونربطها كلها بسنّتين ربانيتين ننظر إلى ما يجري في الدنيا من خلالهما: "سنّة التدافع" و"سنّة الأجل".

*   *   *

قبل خمسين سنة (وكنت يومها طالباً في الثانوية) أعددت خريطة تاريخية للعالم الإسلامي تغطي أقطاره كلها على امتداد ثلاثة عشر قرناً، ولكي أصنع ذلك قرأت عشرات الكتب التاريخية، ومن بعدها قرأت -على مر السنين- مئات ومئات من المجلدات والمؤلفات التاريخية. وقد لاحظت من ذلك كله أن حوادث التاريخ ليست جزائر منفصلة في المحيط، بل هي أنهار تتدفق على الأرض، فلكل حادثة متأخرة بداياتٌ مبكرة تتقدم عليها بوقت طويل قد يمتد لعشرات السنين، وهي نفسُها ستكون سبباً لحوادث لاحقة تتبعها تتراً على مر السنين اللاحقة.

على سبيل المثال يُجمع كُتّاب السيرة على أن فتح مكة كان نتيجة تراكمية للحوادث التي أعقبت صلح الحديبية (الذي اعتبره الصحابة في وقته إخفاقاً وهزيمة). ويمكننا أن نقرر أيضاً أن نقطة بداية انهيار الدولة العباسية وسقوط بغداد سنة 656 هجرية تعود إلى حادثة تافهة وقعت قبل ذلك بأربعين سنة، عندما أقدم أحد ولاة السلطان محمد خوارزمشاه (ينال خان، وكان واليه على مدينة أُطرار) عندما أقدم وقتها على قتل بعض رعايا جنكيز خان. وبطريقة مشابهة يعتبر كثير من مؤرخي القرن العشرين أن الحرب العالمية الأولى اندلعت في أوربا سنة 1914 نتيجة لسلسلة حوادث بدأت باستيلاء إمبراطورية النمسا والمجر على إقليم البوسنة والهرسك سنة 1878، وأن الحرب العالمية الثانية وقعت عام 1939 بسبب تداعيات معاهدة فرساي (1919)، ولا سيما ضم إقليم السوديت (ذي الأغلبية الألمانية) إلى تشيكوسلوفاكيا، الدولة الجديدة التي أنشأها الحلفاء بعد الحرب.

ما أريد قوله (باختصار وبعيداً عن التطويل والاستطراد في الأمثلة التاريخية، وما أكثرَها) هو أن كثيراً من الحوادث التاريخية (التي تبدو ظاهرياً أنها انتهت في وقتها) لا تلبث أن تصبح هي ذاتها قادحاً لسلسلة حوادث لاحقة تغيّر مسار التاريخ بطريقة غير متوقعة، فمَن ظن أن انكساراً في جولة من جولات الصراع بين الحق والباطل هو نهاية سلسلة الحوادث التاريخية فقد أخفق في فهم سنة التدافع ولم يحسن قراءة التاريخ.

*   *   *

وما هي سنّة التدافع؟ إنها واحدة من القوانين الكبرى التي تجري بها أقدارُ الله في الأرض: "ولولا دفع الله الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرض". أين جاءت هذه الآية؟ بعد قصة الصراع بين طالوت وجالوت الذي ضربه الله مثلاً للصراع بين الحق والباطل، ولا يكون صراعٌ من هذا النوع إلا ويسقط فيها ضحايا وتُقدَّم فيها تضحيات، ولا يكون إلا بآلام ودموع ودماء.

ومَن استثقل هذا الثمن وظن أن أهل الحق يدفعونه بلا طائل لو خسروا جولة من جولات الصراع مع الباطل فقد غفل عن سنّة أخرى من السنن التي جعلها الله قانوناً صارماً في الوجود، "سنّة الأجل"، وهي سنة ربانية أخرى أكدها القرآن في مواضع كثيرة صوّر فيها الصراعَ بين الحق والباطل وعرض فيها مصارع الأقوام الضالة الظالمة، خلاصتها قوله تعالى: "لكل أجل كتاب". ومن أحسن صور التعبير عنها قوله تعالى: "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى"، وهي آية فيها تقديم وتأخير، أي: "ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجلٌ مسمى لكان لزاماً". ما هو الأمر اللازم الذي كاد يقع حالاً لولا أن الله أخّره إلى أجله المكتوب؟ أفضل ما يُفهم من سياق الآية أنه انتصار الحق وأهله واندحار الباطل وأهله، بدلالة الآية التي قبلها: "أفلم يَهْدِ لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم؟ إن في ذلك لآيات لأولي النهى".

وماذا بعد آية الأجل المسمّى والمصير اللازم؟ إنه الأمر بالصبر: "فاصبر"، لأن النصر له وقت، له أجل، وبين المعاناة الحاضرة والأجل المكتوب طريق شاق طويل لا يحتمله إلا الصابرون.

نعم، إن الصراع بين الحق والباطل صراع طويل لا تتقرر نتيجته بنهاية جولة من الجولات، فإن لم نشهد نحن جولة الختام فلا بد أن تشهدها أجيال آتيات. أما علاقة النصر بالصبر (الذي خُتم قانون الأجل بالإشارة إليه) فسوف يكون موضوعَ المقالة الآتية إن شاء الله

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين