جُفاء الثورة

 

        ليس كل ما يطفو على السطح فاسدا على الدوام، ولا كل ما يستقر في القاع صالحا كذلك. وإذا كانت الأمم، في كل زمان ومكان، تصدِّر الصالح والطالح على السواء، فإن الثورات تُجلِّي هذه الفئات بوضوح، وتسلط عليهم الضوء بعلن. والثورة السورية، كغيرها من الثورات الكبرى، كشفت عن مستويين متناقضين متباينين من الشعب السوري، فقد تعرفنا من خلالها على علماء ومثقفين وأكاديميين وشعراء وأدباء وباحثين ورجال فكر ودين، على مستوى عال من الرقي والفهم والاتساع، ما كنا لنتعرف عليهم في ظل التغييب المتعمد الذي كان يمارسه النظام ضد المتنورين من أبناء البلد.

    أما المستوى الثاني فعلى النقيض تماما، حيث أبرزت الأحداث، وبفجاجة واضحة، عن ثلة من شعبنا، بلغت من الانحطاط والغباء، أو الدموية والشراسة، أو التلون والنفاق، أو الاستغلال والشره، حداً لم نكن نتوقع وجوده في مجتمعنا، ولولا الثورة لما كشفنا هذه الوجوه المقنعة.

هذه الأصناف البشرية موجودة - بلا شك - في كل المجتمعات، ومنذ فجر التاريخ، لكن ظهورهما اللافت بعد اندلاع الثورة السورية يفرض على المتنورين الغيارى من أبناء هذا الشعب أن يصبُّوا جُلّ اهتمامهم على هذه الظاهرة، متتبعين جذورها وتاريخها وأسبابها ونتائجها وطرق علاجها.

      قد يكون للنظم السياسية دور في اتجاه شعوبها نحو سمات معينة في شخصيتها، وتبلور أخلاقها، وبخاصة تلك الأنظمة الشمولية التي تفرض على رعاياها أسْيقة محددة، وتتدخل في أدق تفاصيل حياتهم التي تجذّر فيهم ثقافة الانصياع والخضوع، وتؤسسها على التبعية والانقياد.

        وقد يكون للحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أثر في بعض ذلك أيضا، ولكن الملاحظ أن كل مستوى من المستويين السابقين يضم بين شخوصه الجاهل والعالم، والفقير والغني، والكبير والصغير، وأشتاتا متباينة من النسيج السوري.

     فكما يذهلني شبابٌ بعمر الأزاهير، انخرطوا في الثورة، وقدّموا لنا ضروبا من الشجاعة والتضحية والفداء والإيثار ونكران الذات، وسطروا لنا حكايات وقصصا، كنا نظنها حكرا على التاريخ وبطون كتب التراث... كما يدهشني هؤلاء، يصدمني كذلك آخرون، قطعوا الأجساد، وازدردوا الكبود، وشربوا الدماء، وأحرقوا الأطفال، وفعلوا أفاعيل، كنا نظنها ضربا من الأساطير، أو نسج خيال مؤلفي أفلام الإثارة والرعب.

     ثنائية متباينة متناقضة، لم تكن خاصة بالمجتمع السوري، ولا جيل الثورة، ولكن بروزها بهذا الوضوح والعلن يفرض على المهتمين بالشأن السوري ملاحظتها وتتبعها، وإيلاءها ما تستحق من الاهتمام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين