ثمرات العبادة

أطفالنا والعبادة (19)

ثمرات العبادة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

الإيمانُ عقيدةٌ تعمُرُ القلبَ، وتغمرُ الجوارحَ، فتثمر الطاعةَ والفضائلَ والمكارم، وحسن المعاملة، وسموّ الأخلاق.. وليس الإيمانُ كلمةً تجري على اللسانِ، أو يدّعيها الإنسَانُ بغير برهان.. بل هو عقيدةٌ راسخة، وأخلاقٌ فَاضلة، وأعمالٌ صالحة..

 

فالإيمانُ دافع للمؤمن إلى الإكثار من الطاعات حبّاً لله، وتقرّباً منه، وطلباً لمرضاته.. وهذا ما يفسّر لنا اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلَّم في العبادة، واجتهاد أصحابه الكرَام رضي الله عنهم، بصُورة دفعت بعضهم إلى المبالغة، فكانوا يحتاجون معها أنْ يدعوهم النبيّ صلى الله عليه وسلَّم إلى الاعتدال، والتخفيف عن أنفسهم، وأن لا يكلّفوا أنفسهم ما لا يطيقون، فإنّ الله لا يملّ حتّى يملّوا..

 

وإنّ أعظمَ ثمرة من ثمرَات العبَادة أن يصل المؤمن إلى مرْتبة الإحسان، التي هي أعلى مراتب الدين، وقد عرّفها النبيّ صلى الله عليه وسلَّم بقوله: (أن تَعْبُدَ اللهَ كأنّكَ تَراهُ، فإنْ لم تكُنْ تَراهُ فإنّهُ يَراكَ) جزء من حديث جبريل المشهور، رواه مسلم برقم /8/ والترمذيّ برقم /2613/ وأبو داود /4695/ والنسائيّ 8/97/.

 

 ويَنبغي أن نفهم هنا العبادة بمعنى العمل أيّ عملٍ كان ـ ما دام مشروعاً ـ فكأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم يقول: أن تعْملَ العملَ لله كأنّك تراه.. وهذا مَا يورّث المؤمن مراقبة الله تعالى في مهْنته، في سوقه، في تجارته، في مدرسته، في جامعته، في أخذه وعطائه، في جوْدِه ومنعه، في حبّه وبغضه، في كلّ شَأنٍ منْ شئون حياتِه..

 

وإذا كان التعبير عَن حقائق الدين وأعمَاله ومفاهيمه بكلمة جامعة هي: " التقوى "، فإنّ التقوى ليست في مفهوم الإسلام وحقيقتها ـ كما يفهمها بعض الناس ـ سلوكاً سلبيّاً، يتمثّل في موقف ردّة الفعل عن الأمور السيّئة المكروهة، ومجاهدة النفس على تركها.. وإنّما التقوى وقاية وقوّة، وطاقة دافعة.. فالقوّة وقاية، والوقاية قوّة، والوقاية والقوّة تبعثان في الإنسانِ طاقة للجدّ النشِط، والعمل الراشد.. فلا حقيقة للوقاية بغير قوّة، ولا ثبات للقوّة بغير وِقاية.. إنّهما شرطان لقيام سوق الحقّ، وارتفاع أعلامه في الخلق..

 

والتقوى روح من نور الله، وإشراقة الإرادة الخيّرة في النفس المؤمنة، التي حلّقت بطهرها في سماء الإخلاص، وتخلّصت بنقاء التوحيد من كلّ شائبة، ورفرفت في معارج العبوديّة الصادقة، فلم تأسرها ضرورة، ولم تحدّ طموحها حاجة..

وبقدر ما تحمل التقوى صاحبها على اجتناب ما ينهى عنه، فإنّها تدفعه إلى فعل مَا يؤمر به، والتقرّب إلى ربّه بمَا يحبّه..

 

والإحسَانُ روح تقوى الله تعالى، التي هي كلمة جامعة لحقائق الدين ومراتبِهَا كلّها، الظاهرة والباطنة، القوليّة والعمليّة والقلبيّة، وهو يقود الإنسان إلى الالتزامِ الصادقِ بدينِ الله تعالى ومنهجه، وهوَ من أهمّ ثمرات العبادة لله تعالى.

 

ـ ومن ثمرات العبادة لله تَعالى: إتْقان العملِ وتجويده، وقد جاء في الحديث: (إنّ الله يحبّ من العامل إذا عمل عملاً أن يتقنه) رواه أبو يعلى والعسكريّ عن عائشة ترفعه، ورواه البيهقيّ والطبرانيّ، انظر كشف الخفاء 1/286/. لأنّ المؤمنَ عنْدما يقوم بالعمل ابتغَاء مرضاة الله تعالى لابدّ أن يلاحظ أنّ الله تعالى طيّب، لا يقبل إلاّ طيّباً، ومنْ معنى الطيب أن يكون العمل متقناً جيّداً..

ومن ثمرات العبادة: صلاح النفس واستقامتها وهداها، وتلك ثمرة من أعظم ثمرات التكليف الإلهيّ، يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28)} النساء.

 

ويقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} الأعلى.

ويقول سبحَانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} الشمس.

 

وبعد ؛ فإنّ ثمرات العبادة أكثر من أن تحصى، وهذا ما يفسّر لنا طرفاً من حكمة الله تعالى إذ جعل العبادات الخاصّة: من صلاة وزكاة، وصوم وحجّ أركاناً للإسلام، لما لهَا من تأثير واسع متشعّب في شتّى مناحي الحياة..

ولكنّنا عندَما ننظر نظرة جامعة إلى ثمرات العبادة، نراها تجتمع في ثلاثة جوانب:

ـ الجانب الأوّل: ثمرات للعبادة تتعلّق بصلة العبد بالله تعالى ؛ كحبّ الله تعالى وخشيته، وخوفه ورجائه، والتوكّل عليه، والإنابة إليه، وذكره تعالى وشكره، والإخلاص لوجهه الكريم، وكمال توحيده وتعْظيمه..

ـ والجانب الثاني: ثمرات للعبادة تتعلّق بشخصيّة الإنسان، وتكوينه وبنائه ؛ كقوّة الإرادة، وسموّ الهِمّةِ، وتزكية النفس، والتحقّق بالصدق والأمانة، والتمسّك بمكارم الأخلاق، والبعد عن مساوئها.

ـ والجانب الثالث: ثمرات للعبادة تتعلّق بصلة الإنسان بالآخرين، وعلاقتهم به، كحفظ الذمم، وأداء الحقوق، وكفّ الأذى، والتسامح، وحسن التعامل مع الناس، وحسن الظنّ وسلامة الصدر.

ولا شيء من ثمرات العبادة يخرج عَنْ هذه الجوانب الثلاثة، وهي متّصلة متداخلة.

 

إنّ على الوالد والمربّي أن يربط للطفل والناشئ بين العبادة، وما يتّصل بهَا منْ ثمرات وبركات وآثار، فهذا خير ما يبعد العبادة عن أن تكون جسداً لا روح فيه، وعادة لا ثمرة لها وصورة لا حقيقة لها، ولا فائدة منها..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين