تعقيبات على الدكتور بشار معروف 2 – 2

وقفتُ أيضا على هذا التسجيل المرئي (1) للدكتور بشار عواد معروف، في إحدى صفحات مجموعات الواتس، فعجبت مِن هذا الإيهام بوقوع الدسِّ في صحيح البخاري.

فإن رابط التسجيل مصحوب بعبارة فيها تهويل كبير، يقول صاحبها: [المحقق الدكتور بشار عواد يؤكد أن البخاري لم يكتب حديث عمار تقتله الفئة الباغية. لكن السؤال الأهم هو: مَن هؤلاء الذين دسوه في كتابه؟! ومَن هذه الجهة التي أخفت تلك النسخ الخالية من هذا الحديث وأظهرت فقط هذه النسخ التي تطبع في زماننا؟!] انتهى كلامه.

وواضح أنّ هذا الكلام المصاحب للرابط يوحي بأن الحكم بخلو صحيح البخاري من هذا الحديث، يعني بطلان الحديث من أصله. وكأنّ هذا الحديث لم يَرِدْ إلا في صحيح البخاري.

وهو تلبيس رخيص، وراءه أهواء سياسية مذهبية ترمي إلى تجريد الشيعة من أحد أهم مستنداتهم في حقدهم الأسود على سيدنا معاوية رضي الله عنه. وتسجيلِ نقطة ضد أحفاد الفرس لصالح أحفاد العرب.

وليس من الدين ولا العلم ولا الحكمة أن نُنْكر بعض الحق لنرُدّ على بعض الباطل، فلا الباطلَ أنهينا، ولا على الحق أبقينا..

إن تجريد الشيعة من هذا الحديث لا يغير من الأمر شيئا عندهم، فما أهونَ عليهم أن يختلقوا الكذبَ الفاحش الذي يَقصر عن مثله السفهاء، ويخجل من مثله العقلاء، من أجل أن يُوْرُوا به نار حقدهم، ويُجَيِّشوا به دهماءهم لخدمة ضلالهم!.

وما فِرْية كسر ضلع الزهراء عنا ببعيد.

وأقول في التعقيب على ما قرأت وسمعت في هذا المنشور:

قد أوهم صاحبُ التعليق المصاحب للتسجيل، أن حديث "تقتله الفئة الباغية" حديث مدخول مكذوب لأغراض سياسية.

والحق أن إلقاء الريبة حول هذه العبارة النبوية، والتشكيك فيها، هو الذي يخفي وراءه أهواء سياسية، وولاءً قوميا على حساب الولاء للأمة كلها.

ولجِلاء الغبش حول هذه القضية أقول:

أولا: إن مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة الأنصاري، ومن حديث أم سلمة، رضي الله عنهم.

رواهما مسلم في أبواب الفتن من صحيحه.

فأما حديث أبي سعيد عن أبي قتادة:

فقال مسلم في صحيحه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى - قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: "بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ فِئَةٌ بَاغِيةٌ".

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ عَبَّادٍ الْعَنْبَرِيُّ وَهُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالاَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ قَالُوا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ النَّضْرِ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ. وَفِى حَدِيثِ خَالِدٍ: وَيَقُولُ: «وَيْسَ». أَوْ يَقُولُ: « يَا وَيْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ» انتهى.

وأما حديث أم سلمة:

فقال مسلم في صحيحه: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ح وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ عُقْبَةُ: حَدَّثَنَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدًا يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ".

وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِمَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ".

ثانيا: وكما أن عبارة: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" صحيحة ثابتة عن أبي سعيد الخدري الخدري، الذي ينتهي إليه سند البخاري، فإنَّ عامة مَن روى هذا الحديث عن أبي سعيد، قد روى فيه قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: (تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ).

ثالثا: وعامة المصنفين في الحديث، الذين وصل إليهم حديث أبي سعيد بالسند الصحيح المتصل، فقد وصل إليهم فيه قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ." ومنهم الإمام البخاري نفسه، رحمه الله.

فإن حديث أبي سعيد هذا قد ورد في نُسخ صحيح البخاري المتداولة اليوم، في موضعين بسندين مختلفين إلى خالد الحَذَّاء، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

الأول: في أبواب المساجد، [باب التعاون في بناء المسجد]

قال البخاري: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ. فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: "وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ". قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ.

والثاني: في كتاب الجهاد والسِّيَر. [بَاب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]

قال البخاري: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ. فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: "وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ".

وأنت ترى أن عبارة: "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" موجودة في السندين كليهما، في نسخ البخاري المتداولة.

ولعل أول مَن أشار إلى خلو حديث البخاري من عبارة: "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" هو الحافظ المجوِّد: محمد بن إبراهيم بن عبيد الدمشقي، المشهور بـ: أبي مسعود الدمشقي، رحمه الله.  ت 401 هـ  في كتابه: (أطراف الصحيحين)

وتابعه على ذلك شيخ المحدثين في زمانه، الإمام الحافظ المتقن، محمد بن فُتُوح الحُميدي، رحمه الله. ت 488 هـ في كتابه: (الجمع بين الصحيحين) نقلا عن كتاب سلفه أبي مسعود الدمشقي (أطراف الصحيحين) وفيه أن عبارة: "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" ليست في حديث البخاري في كلا السندين.

وقد وضع الحُميدي احتمالين لتفسير ذلك فقال: [ولعلها لم تقع إليه فيهما، أو وقعت فحذفها لغرضٍ قَصَدَه في ذلك] اهـ

ثم تابع الحميديُّ في بيان وجود عبارة "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" عند غير واحد من المصنفين في الحديث، فقال: [وأخرجها أبو بكر البَرقاني، وأبو بكر الإسماعيلي قبله، وفي هذا الحديث عندهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"] اهـ

ثم نقل الحميدي كلام سلفه في هذه المسألة، أبي مسعود الدمشقي، الذي يقرر فيه وجود عبارة "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" عند جمهرة من المحدثين الذين رووا هذا الحديث بنفْس سند البخاري إلى أبي سعيد، فقال الحميدي: [قال أبو مسعود الدمشقي من كتابه: لم يذكر البخاري هذه الزيادة، وهي في حديث عبد العزيز بن المختار، وخالد بن عبد الله الواسطي، ويزيد بن زريع، ومحبوب بن الحسن، وشعبة، كلهم عن خالد الحذاء] اهـ

قلت: ولا يخفى أن سند البخاري في هذا الحديث بروايتيه، ينتهي إلى خالد الحَذَّاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

فلما جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني، ت 852 هـ صاحب فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ووقف على كلام الحميدي في الاحتمالين اللذين ذكرهما في توجيه ما ذكره أبو مسعود الدمشقي، من خلو حديث البخاري من عبارة "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" فرجَّح الحافظ الاحتمال الثاني، وهو أن عبارة "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" قد بلغت البخاري فعلا فأثبتها في الحديث، ولكنه حذفها عمدا بعد ذلك، وذلك لِوقوفه على عِلَّةٍ خفية فيها أخرجتها عن شرطه في الصحيح. وهي: أن تلك العبارة من الحديث ليست مما سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، كما يوهم ذلك ظاهر السند الذي في البخاري. وإنما سمعها من صحابي آخر سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سماه أبو سعيد الخدري في رواية صحيح مسلم المتقدمة: أبا قتادة.

ومعلوم أن رواية الصحابي عن الصحابي لا تضر في صحة الحديث، غير أن سند حديث مسلم الذي فيه أن أبا سعيد سمع من أبي قتادة، ليس على شرط البخاري، فحذفها لهذا السبب.

وإليكم كلام الحافظ بنصه عند شرحه لحديث البخاري المشار إليه في أبواب المساجد، (باب التعاون في بناء المسجد) قال الحافظ: [وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة لَمْ يَذْكُرهَا الْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع وَقَالَ: إِنَّ الْبُخَارِيّ لَمْ يَذْكُرهَا أَصْلًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُود. قَالَ الْحُمَيْدِيّ: وَلَعَلَّهَا لَمْ تَقَع لِلْبُخَارِيِّ، أَوْ وَقَعَتْ فَحَذَفَهَا عَمْدًا. قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَرْقَانِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث. قُلْت: وَيَظْهَر لِي أَنَّ الْبُخَارِيّ حَذَفَهَا عَمْدًا، وَذَلِكَ لِنُكْتَةٍ خَفِيَّة، وَهِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ اِعْتَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع هَذِهِ الزِّيَادَة مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة مُدْرَجَة، وَالرِّوَايَة الَّتِي بَيَّنَتْ ذَلِكَ لَيْسَتْ عَلَى شَرْط الْبُخَارِيّ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْبَزَّار مِنْ طَرِيق دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد، فَذَكَرَ الْحَدِيث فِي بِنَاء الْمَسْجِد وَحَمْلهُمْ لَبِنَة لَبِنَة، وَفِيهِ: فَقَالَ أَبُو سَعِيد: "فَحَدَّثَنِي أَصْحَابِي، وَلَمْ أَسْمَعهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا اِبْن سُمَيَّة تَقْتُلُك الْفِئَة الْبَاغِيَة" اهـ. وَابْن سُمَيَّة هُوَ عَمَّار، وَسُمَيَّة اِسْم أُمّه. وَهَذَا الْإِسْنَاد عَلَى شَرْط مُسْلِم، وَقَدْ عَيَّنَ أَبُو سَعِيد مَنْ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ، فَفِي مُسْلِم وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ: "حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْر مِنِّي؛ أَبُو قَتَادَةَ، فَذَكَرَهُ" فَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيّ عَلَى الْقَدْر الَّذِي سَمِعَهُ أَبُو سَعِيد مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون غَيْره، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى دِقَّة فَهْمه وَتَبَحُّرِهِ فِي الِاطِّلَاع عَلَى عِلَل الْأَحَادِيث.] انتهى كلام ابن حجر.

فقارِن رحمك الله، بين ما نسبه الدكتور بشار إلى الحافظ ابن حجر، أنه [نص في فتح الباري بأن هذا الحديث بهذه الصيغة لم يذكره البخاري]. وبين قول الحافظ: [وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة لَمْ يَذْكُرهَا "الْحُمَيْدِيّ" فِي الْجَمْع...]

فشتان شتان بين قول الحافظ عن العبارة موضوع البحث: [لَمْ يَذْكُرهَا "الْحُمَيْدِيّ"] وبين تقويله: [لَمْ يَذْكُرهَا "البخاري"]!!

ثم لاحِظْ تردد الحميدي في الجزم في هذه المسألة حين قال: [وَلَعَلَّهَا لَمْ تَقَع لِلْبُخَارِيِّ، أَوْ وَقَعَتْ فَحَذَفَهَا عَمْدًا].

ثم لاحظ قول الحافظ: [قُلْتُ: وَيَظْهَر لِي أَنَّ الْبُخَارِيّ حَذَفَهَا عَمْدًا، وَذَلِكَ لِنُكْتَةٍ خَفِيَّة..]

فأقول: الدقيق في حكاية رأي ابن حجر: أن البخاري قد ذكر هذه العبارة في الحديث في صحيحه، ثم حذفها للعلة التي شرحها الحافظ.

فكلام الحافظ يقرر بوضوح أن القضية ليس فيها دسٌّ على البخاري ولا تزوير، ولا إظهار نسخ من الصحيح وإخفاء أخرى، كما توهمه صاحب الكلام المصاحب لرابط التسجيل. ولو وقع شيء من ذلك، أو حتى لو كان محتملا، لذكره أو أشار إلى احتماله الجهابذة الذين ذكرناهم، أبو مسعود الدمشقي، والحميدي، والبَرقاني، والإسماعيلي، أو من جاء بعدهم من الشراح والصيارفة الحُذاق في علم الحديث، كابن المُنَيِّر، وابن بَطال، والحافظ ابن حجر وغيرهم.

فلما لم نجد من أحد منهم أي إشارة لاتهام أحد من الناس بشيء من دس أو تزوير، علِمنا بطلان هذه الأوهام من أساسها، التي لا يغتبط بها إلا الزنادقة الذين يودون أن يظفروا بمثلها بأي ثمن.

كل ما في الأمر أنَّ البخاري رحمه الله هو الذي حذف العبارة بعد أن أثبتها، للعلة الخفية التي بيَّنها الحافظ.

فلعل البخاري حذفها من نسخته بِأَخَرَة، عندما وقف على تلك العلة، بعد أن نقلها رواة الصحيح عنه، فشاعت نُسخهم وانتشرت. فالله أعلم.

هذا، ثم أتبع الحافظ ابن حجر رحمه الله، هذا التحقيق الدقيق، بفائدة نفيسة تقطع الطريق على كل صاحب هوى، يريد أن يتخذ من كلام الحُميدي مطية للتعريض بعدم ثبوت قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" كما فعل صاحب تقديم رابط التسجيل. فقال الحافظ:

[(فَائِدَةٌ) رَوَى حَدِيث "تَقْتُل عَمَّارًا الْفِئَة الْبَاغِيَة" جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، مِنْهُمْ قَتَادَةُ بْن النُّعْمَان كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُمّ سَلَمَة عِنْد مُسْلِم، وَأَبُو هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ عِنْد النَّسَائِيِّ، وَعُثْمَان بْنُ عَفَّان، وَحُذَيْفَة، وَأَبُو أَيُّوب، وَأَبُو رَافِع، وَخُزَيْمَةُ بْن ثَابِت، وَمُعَاوِيَة، وَعَمْرو بْن الْعَاصِ، وَأَبُو الْيَسَر، وَعَمَّار نَفْسه، وَكُلّهَا عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَغَيْره، وَغَالِب طُرُقهَا صَحِيحَة أَوْ حَسَنَة، وَفِيهِ عَنْ جَمَاعَة آخَرِينَ يَطُول عَدّهمْ، وَفِي هَذَا الْحَدِيث عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة، وَفَضِيلَة ظَاهِرَة لِعَلِيٍّ وَلِعَمَّارٍ، وَرَدٌّ عَلَى النَّوَاصِب الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا فِي حُرُوبه.] اهـ

وأؤكد في ختام هذا البحث على أنه لا أثر لهذا البحث الذي ميدانه الرواية، على ميدان الدراية، لأن عبارة "تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" ثابتة عند مسلم وغيره كما رأينا في فائدة الحافظ ابن حجر المتقدمة، فلا يضرها بعد ذلك إن ثبتت عند البخاري أو لم تثبت.

مع أنها ثابتة عنده أيضا في عموم نسخه التي بأيدي الناس.

والله أعلم.

وكتبه إبراهيم يوسف المنصور.

في الرابع والعشرين من شهر ذي القَعدة الحرام، لعام 1445 من الهجرة الشريفة.

الموافق: 1/6/2024

 

*********

للاطلاع على مقطع الفيديو على الرابط التالي:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid02XGvJJJogbGj6mkbM2QHjzcvo42NhXwXszEWm38g78wunBhQNMvAqxwJ6PmwdwHSpl&id=100002851155291

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين